لا أدري لماذا تتعامى الهيئات والحملات المطالبة بتحرير المرأة في بلادنا العربية عن حقيقة أن النساء هن الحاكمات بأمرهن في ملايين البيوت العربية من المحيط إلى الخليج. وهن أبعد ما يكن عن الاضطهاد في أحيان كثيرة. إن المرأة هي الآمر الناهي في الكثير من المنازل خاصة في البلدان التي يعتقد البعض أن النساء فيها مضطهدات لمجرد أنهن يرتدين الحجاب وليس مسموحاً لهن بأن يُظهرن وجوههن أو يقدن السيارة. لا تغترن بالمظاهر، فهي قد تكون خادعة في الكثير من الأحيان. ولا أبالغ إذا قلت إن الرجال يعانون أحياناً من تسلط المرأة حتى في البلدان المحافظة. ولعل المؤشر الأهم على نفوذ النساء في بعض البلدان العربية هو حجم الإنفاق والتحكم بالميزانيات المنزلية بالرغم من أن معظمهن لسن عاملات.
تشير الإحصائيات إلى أن النساء الخليجيات مثلاً ينفقن سنوياً ملايين الدولارات على الكماليات ومساحيق التجميل والزينة والثياب إلى حد أن شركات صناعة التجميل تجني أرباحاً طائلة في منطقة الخليج. وكثيراً ما ترى أن النسوة يركبن سيارات فارهة أغلى وأجمل بكثير من تلك التي يقتنيها الرجال. وإذا كان الغرب يقيس الحرية عادة بمدى استقلال المرأة اقتصادياً فإن الكثير من النساء العربيات يتمتعن ببحبوحة اقتصادية يحسدهن عليها عتاة المتحررات في الدول الغربية، ففي الوقت الذي قد تلجأ فيه الفتاة الغربية أحياناً إلى كل الأساليب للحصول على ما يسد رمقها نجد أن المرأة العربية تبقى معززة مكرمة في أغلب الأحايين، فحتى العائلات الفقيرة تحاول أقصى جهدها لتأمين مستلزمات الفتيات. وأعرف عائلات كثيرة يقدم فيها الأب البنت على الابن من حيث الوفاء بمتطلباتها ومستلزماتها حتى لو جار على الأبناء.
ولا داعي للقول إن وضع المرأة ساء كثيراً في بعض البلدان العربية التي تتشدق بالتحرر الاجتماعي، إذ يلجأ بعضهن إلى طرق ملتوية لتحصيل رزقهن كي لا نقول شيئاً آخر. وبالمناسبة هناك الآن ردة نسائية في أمريكا باتجاه المنزل،إذ تشير الدراسات إلى أن عدد النساء اللواتي يرغبن بترك العمل والعودة إلى البيت في ازدياد كبير. وهذا يجعل المطالبين بحقوق المرأة العربية في العمل كالذاهب إلى الحج والناس عائدون.
ولا أدري أيضاً لماذا يتجاهل البعض حقيقة أن لباس الرأس الذي يرتديه الكثير من النسوة في بعض الدول العربية الفقيرة والذي تريد جمعيات تحرير المرأة أن تخلصهن منه هو لباس اقتصادي أكثر منه ديني ملزم أو إجباري. بعبارة أخرى فإن ذلك الزي ضرورة اقتصادية. فكما هو معروف أن عمليات الزينة وتجميل الشعر باهظة التكاليف بدءاً بالشامبو مروراً بالصبغات والسيشوار وانتهاء بالمثبتات وأجور الكوافيرات وغيرها. وبالتالي فإن النساء الفقيرات يستطعن توفير كل ذلك بمجرد تغطية الرأس وفي الوقت نفسه يلتزمن بتقليد ديني أو اجتماعي معين.
وبالإضافة إلى تجاهل العامل الاقتصادي في حملات تحرير المرأة هناك أيضاً تعتيم أو ربما تغطية على الدوافع السياسية التي تقف وراء بعض الجهود المزعومة للنهوض بالنساء العربيات. ليس هناك شك أن بعض الدعوات المنادية بتحرير الجنس اللطيف هي حق يُراد به باطل بمعنى أنها ليست من أجل عيون النساء العربيات الحور بل لأغراض خارجية أبعد وأكثر خطورة. ويرى بعض الباحثين في هذا السياق أن الضغوط الغربية المحمومة على البلدان العربية لإطلاق حرية المرأة تهدف إلى استيعاب الوافدين الغربيين وانصهارهم في المجتمعات العربية التي جاءوا إليها لأغراض اقتصادية أو عسكرية وتسهيل مهمتهم، خاصة أنهم أتوا ليبقوا ردحاً طويلاً من الزمن. أي علينا أن نعيد قولبة مجتمعاتنا من أجل عيون الآخرين.
ولعلنا نتذكر كيف تشتكي بعض الفتيات الغربيات من صعوبة العمل والعيش في بعض الدول العربية بسبب العادات الاجتماعية بحيث لا تسمح لهن بعض البلدان بارتداء الأزياء الأجنبية والتبختر في السواق كاسيات عاريات ولا بد لهن من لبس الأزياء المحلية المحتشمة. وينطبق الأمر ذاته على الرجال الغربيين من اقتصاديين وعسكريين الذين يشعرون بأنهم يعيشون في غربة في بعض البلدان العربية نظراً لوجود عادات وتقاليد تحد من قدرتهم على التحرك والتأقلم أو بالأحرى التفسخ. بعبارة أخرى فإن تلك الحملات المسعورة التي تريد إيهامنا بأنها تريد أن تنقل المرأة العربية من عصر الظلمات إلى عصر النور والحرية هي لغاية في نفس يعقوب، إن لم نقل في نفس جيكوب أو جون. فهم يخفون عن المجتمعات العربية المستهدفة بما يُسمى بالتحرر الاجتماعي أنهم يريدوننا أن نتغير لكي نستوعبهم بحيث يسرحون ويمرحون على هواهم في بلادنا لا سيما وأنهم يخططون على ما يبدو للبقاء بين ظهرانينا لأجل غير مسمى. ويساعدهم في ذلك وسائل إعلام وفضائيات ممولة من دول عربية تدعي أنها محافظة لا هم لها سوى الترويج للقيم الاستهلاكية وتسليع المرأة وتحريرها من ثيابها.
صحيح أن المراة العربية في البلدان الميسورة الحال تنفق كما أسلفت مبالغ طائلة على مواد التجميل وتبذر الكثير من المال، لكنها بالتأكيد ستزيد من إنفاقها فيما لو تخلت عن بعض القيود الاجتماعية كتغيير اللباس وغيره، وبالتالي فإن الملايين المصروفة على أدوات الزينة المستوردة من الغرب ستتضاعف فيما لو تم تحرير المرأة العربية على الطريقة المنشودة غربياً. أي أن هناك بعداً ربحياً مفضوحاً وراء حملات الداعين إلى تحرير النساء العربيات.
لا أحد في كامل عقله وأحاسيسه الإنسانية في بلادنا يريد أن يضطهد المرأة، فهي في النهاية إما أمه أواخته أوعمته أوخالته أو زوجته أو ابنة عمه أو ابنة خاله أو جدته وهلم ماجرى. وإن الذين ينكلون بالنساء ويضطهدونهن لا يمثلون إلا أنفسهم وهم وصمة عار في جبين مجتمعاتنا. نعم لتحرير المرأة من الأمية والفقر والعادات البالية والقمع الاجتماعي إن وجد بشكل تعسفي. لكن لا لتحرير المرأة من قيمها الأصيلة. لا لتحريرها من ملابسها وأخلاقها. لا لتحريرها من فلوسها كي تتحول إلى مجرد مستهلكة عمياء تشتري كل ما لا تحتاجه لتسمين أرباح الشركات الأجنبية ووكلائها. نعم لتحرير المرأة والمجتمع لكي يواكب العصر ويتخلص من أدران الماضي البائدة، لكن لا لتحريره أوبالأحرى انحلاله وتخريبه من أجل إرضاء الأجانب. وشتان بين التحرر والتحلل.
لقد قال الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان ذات مرة إن العولمة هي أشبه بقطعة بيتزا يضع عليها كل بلد في العالم المكونات والعناصر المحلية، فالهندي يضع عليها مثلاً البهارات الحارة والأمريكي يضع عليها السجق والنقانق والإيطالي يضع عليها الزيتون والطماطم. بعبارة أخرى فإن العولمة لا تعني صهر ثقافات العالم كلها في قالب غربي أو أمريكي تحديداً كما يزعم صاحبنا. وبالتالي من حقنا أن نساير العولمة بشرط ألا نتخلى عن ثقافتنا وقيمنا وأن نضع على عجينة البيتزا الحمص والبرغل إذا شئنا وألا نستبدل الزي الوطني والقيم المحلية بالموضات الدخيلة لباساً كانت أو أفكاراً لكي يقولوا عنا إننا متعولمون متحضرون ونحترم حقوق المرأة.
مقال اعجبني