[frame="4 90"]مما لا شك فيه أن شريعة الإسلام جاءت داعية إلى مكارم الأخلاق ناهيةً عن رذائلها، قال صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم] وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[ وقد أُمرنا بالتأسي به عليه الصلاة والسلام وانتهاج نهجه الخُلُقي العظيم، ومع مرور الزمان وضعف الإيمان كثرت رذائل الأخلاق حينما ابتعد المسلمون عن المنهج الرباني في تزكية النفس. وسنتحدث إن شاء الله عن مرض من أمراض القلوب، ورذيلة من الأخلاق المرذولة، جاء الشرع بالنهي عنها والتحذير من الاتصاف بها، ألا وهي رذيلة (الحسد):
ما هو الحسد؟
عرَّفه العلماء بأنه: "تمني زوال النعمة وتشمل النعمة الدينية والدنيوية عن الغير"، سواء رافق ذلك الرغبة في تحوِّلها إليه أم مجرد زوالها عنه ولو لم يحصل عليها.
حكمـه
محرم منهي عنه أشد النهي، والأدلة على ذلك كثيرة:
1- قوله صلى الله عليه وسلم "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً" متفق عليه.
2- "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" رواه أبو داود.
3- أنه من صفات الكافرين، وقد نُهينا عن التشبه بهم، قال تعالى: ]حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ[، وهو من أخلاق اليهود المشهورة، وما منعهم من الدخول في الإسلام من بعد علمهم بصدق الرسالة إلا حسدهم، حيث تمنوا أن يكون خاتم الأنبياء منهم، فلما جاء من العرب حسدوهم وأعرضوا عن اتباعه وهم يعلمون صدقه، كما قال تعالى: ]أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ[ وقال: ]الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[، وهذا أبو جهل ما منعه من الإسلام وهو يعلم صدق النبي عليه السلام إلا الحسد، فكان من بني عبد مناف ورسول الله عليه السلام من بني هاشم، وهما من بطون قريش، فكان يقول: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان؛ يطعمون فنطعم ويغزون فنغزو حتى إذا جاء محمد قالوا: منا نبي وليس منكم نبي. لا والله لا نصدقه ولا نطيعه". فانظر كيف يُعمي الحسد البصائر؟! وسيأتي في أضرار الحسد ذكر هذا وأمثاله.
4- من الأدلة على تحريمه أن الله أنكره على من فعله وذلك بطريقة الاستفهام الإنكاري في قوله ]أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ[.
5- من أهم أسباب تحريم الحسد: أنه اعتراضٌ على الله عز وجل في قضائه وقدره، فهو سبحانه الذي قسَّم الأرزاق والمواهب والأخلاق بعدله سبحانه وحكمته، فالحاسد بفعله هذا يعترض على قسمة الله لمحسوده، وفي هذا قيل:
ألا مَنْ كان لي حاسداً
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه
لأنك لم ترضَ لي ما وهب
فهو ينافي الرضا بالقضاء والقدر.
1- الحكمة من تحريمه: كثيرة وعظيمة لمن تأمل عواقب الحسد ونتائجه، فالحسد يوغر الصدور، والإسلام حث على سلامة الصدر في مواضع عديدة، وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بالجنة لسلامة صدره، فعن عبدالله بن عمرو بن العاصt قال: كنا جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، قال: فخرج رجل من الأنصار تقطر لحيته من ماء الوضوء، فلما كان من الغد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام مثل ما قال، فطلع ذلك الرجل، فقلت في نفسي: والله لألزمنه فأرى ما يصنع فذهبت إليه فقلت: إن بيني وبين أبي (مَوْجِدَه) ـ يعني مشكلة ـ فهل تأذن أن أبيت عندك؟ فأدخلني وأكرمني وبت عنده ثلاث ليال، فلم أره يصوم النهار ولا يقوم من الليل الكثير، وكان إذا تعارَّ (تنبَّه) من الليل ذكر الله واستغفره وصلى قبل الفجر قليلاً، فلما كانت الليلة الثالثة أخبرته أمري وسألته عن عمله، فقال: هو ما ترى غير أني لا أبيت في فراشي وفي قلبي على أحدٍ من المسلمين شيء" قال عبدالله: وهذه والله التي لا نطيقها" .
وسلامة الصدر تجلب السعادة والراحة والهناء وسعة الخاطر وبقاء الحسنات ومضاعفتها؛ لأن الحسد يأكلها كما تأكل النار الحطب.
عن سفيان بن دينار قال: قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا (يعني الصحابة) قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً، قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم.
ولا نجاة يــوم القيامة إلا بسلامة الصدر، قـال تعالى: ]إِلاّ مَـنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[.
والحاسد يعيش في شقاء ونكد ويتقلب في حسرة وغيظ؛ لأن قلبه لا يعرف الرضا، ولا يضر إلا نفسه، فلا هو استمتع برزق الله له، ولا الأرزاق بيده فيمنعها، فهو في همّ ونكد.
وربما نفع الحاسد محسوده من حيث لا يشعر، حيث يسعى في أذيته ولا يقدر على ذلك، وربما قابله المحسود بالإحسان إليه فيزيد فضله ويعلو قدره، على عكس ما أراد الحاسد، وفي هذا قال الشاعر:
إذا أراد الله نشر فضيلةٍطُويت
أتاح لها لسان حسود
لولا احتراقُ النار فيما حولها
ما كان يُعرف طيبُ ريحُ العودِ
1- حب الدنيا والتعلق بها، وأما المتعلق قلبه بالآخرة فإنه لا يعرف الحسد، وإنما يعرف التنافس وهو تمني حصول الخير له ولغيره. ومن تعلق بالدنيا وأحبها حسد غيره إذا نال منها ما لم ينله هو ونازعه فيها، كما قال الشافعي – رحمه الله – عن الدنيا:
وما هي إلا جيفة مُستحيلة
عليها كلابٌ همُّهُنَّ اجتذابُها
فإن تجتنبها كنتَ سِلماً لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها
قال الحسن البصري – رحمه الله - :
"من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره".
2- ضعف الإيمان والرضا بالقضاء والقدر.
3- حب النفس والرغبة في التفوق والصدارة، والنفس من أعداء الإنسان، قال بعضهم:
إني بُليتُ بأربعٍ يرمينني بالنبل
قد نصبوا عليَّ شراكا
إبليسُ والدنيا ونفسي والهوى
من أين أرجو بينهن فِكاكا
1- استشعار نعمة الله تعالى والسعي في شكرها، وعدم النظر إلى من هو أعلى منه في أمور الدنيا، بل إلى من هو أقل منه، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تنظروا إلى من هو أفضل منكم وانظروا إلى من هو دونكم فإن ذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"، وهذا في أمور الدنيا، أما أمور الدين فينظر إلى أفضل منه ليجتهد.
2- مجاهدة النفس وحملها على كريم الأخلاق، والسعي في إصلاح عيوبها وانشغالها عن الآخرين.
3- العلم بحكمة الله تعالى في تقسيم المعاش والأرزاق، فإن الله أعلم بكل إنسان وما يصلحه ] أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[ .
وحينما حرمك من أمرٍ فربما كان خيراً لك، أو ابتلاء؛ ليرى صبرك وإيمانك، جاء في الحديث القدسي: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك".
1- الاستعاذة بالله عز وجل من شر الحسد وأهله، قال تعالى : ] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [ .
2- تقوى الله فمن اتقى الله كفاه الله شر خلقه ]وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً[، "احفظ الله يحفظك".
3- الصبر على الحاسد؛ فلا تشكوه ولا تحاول أذيته أو مقابلته بالمثل، قال تعالى: ] ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ[ .
4- التوكل على الله في دفع شره وكفايته منه ]ومن يتوكل على الله فهو حسبه[ .
5- أن لا يشغل باله بالتفكير فيه ولا يلتفت إليه ولا يخافه.
6- التوبة من الذنوب عامة؛ لأن الذنوب ربما كان من عقوبتها تسليط هذا الحاسد عليك و "ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة" ] وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ[.
7- الإحسان إلى الحاسد ومحاولة استمالة قلبه وتطييب خاطره؛ لعله يرعوي، وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس، قال تعالى: ]وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[ .
8ـ ذكر الله عند رؤية ما يُعجب، حتى ولو كان في نفسه وولده.
الحسد على جمال، منصب، مال، علم، عباده، جاه وقصور، محبة الناس ... إلخ.
الحسد: تمني زوال النعمة عن الغير. والغبطة: تمني الحصول على النعمة مع بقائها مع صاحبها.
فالحسد المقصود في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلمه" المراد به هنا: الغبطة وليس الحسد الممقوت. والله أعلم.[/frame]