قوافل الطاعة في حكم صلاة الجماعة
لفضيلة الشيخ الدكتور / أحمد بن قاسم الغامدي
* * * * * * * *
• حكم صلاة الجماعة بالنظر إلى إقامتها في الناس فرض من فروض الإمام.
• إقامة الناس في صلاة الجماعة, بعد إقامتها, سنة مؤكدة.
• أدلة القائلين بوجوب الصلاة مع الجماعة لا ترتقي إلى القول بالوجوب.
• المعتبر هو إقامة صلاة الجماعة في الناس لا إقامة الناس فيها.
• حديث أسامة بن زيد في هم النبي بتحريق بيوت أقوام لا يشهدون الصلاة مع الجماعة لم يثبت عنه بإسناد صحيح.
• زيادة ( إن أثقل الصلاة على المنافقين...) وإن كان الشيخان أخرجاه في صحيحهما, إلا أن في النفس منها شيئا.
• أسانيد حديث ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) كلها ضعيفة أو منقطعة.
• لا ينبغي الاعتماد على توثيق من عرف بالتساهل في توثيق الرواة المجاهيل.
• حديث الأعمى وابن أم مكتوم رويا عن عدة طرق لم يثبت منها شيء بإسناد صحيح ولا حسن.
• إذا فشا قول بعض أهل العلم في مسائل الاجتهاد وأطبق العموم عليه أدى إلى خفاء الحق.
* * * * * *
حكم صلاة الجماعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يأيها الناس اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
{يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الإعتصام بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني ألا يخرج عنهما قيد شبر، ففيهما الحجة، وإليهما التحاكم والردّ عند المنازعة والاختلاف، اللهم يا فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
لقد استوقفني كثيرا الإختلاف في مسألة مهمة من مسائل الأحكام الفقهية، هي حكم صلاة الجماعة، فهي بلا شك من أعظم شعائر الدين الحنيف، وفيها من المقاصد الشرعية ومعاني الأخوة ما لا يخفى على كل متأمل، إلا أن حكمها من المسائل التي وقع فيها الإختلاف على اقوال متباينة فقال بعض أهل العلم هي شرط في صحة الصلاة، وقال آخرون هي فرض عين، وقال آخرون هي فرض كفاية وقال آخرون هي سنة مؤكدة؟ .
وكان لابد من جمع ادلة تلك الأقوال والنظر في صحتها أولا ثم صحة الإستدلال بها فجمعت في هذه الرسالة أقوال أهل العلم وأدلتهم ، وأوردت لكل قول ما احتجوا به من أدلة، ثم ناقشت كل دليل بالتفصيل صحة واستدلالا، ثم رجحت بعد ذلك ماانشرح له صدري ودللت عليه فإن كان صوابا فمن توفيق الله عز وجل.
وقد سميت هذه الرسالة (( قوافل الطاعة في حكم صلاة الجماعة ))، وقد رتبته على مبحثين، وخاتمة. المبحثان أحدهما: في ذكر الأقوال في حكم صلاة الجماعة مع ذكر أدلة كل قول ومناقشته وبيان الحق فيه، والثاني: في الكلام على بعض الأحاديث التي احتج بها أهل تلك المذاهب حديثيا . وأما الخاتمة ففيها بيان ما وصل إليه هذا البحث في نقاط، كما أذكر فيها بعض الفوائد الحديثية أو الفقهية المستفادة في ثنايا هذ البحث - مما أراه مهما .وبالله تعالى التوفيق.
[ المبحث الأول ]
في ذكر اختلاف أقوال أصحاب المذاهب في المسألة، وذكر أدلتهم، وبيان الحق فيها
اختلفوا في المسألة على خمسة أقوال؛
القول الأول :
وهو مذهب الخوارج، أنه لا تجوز الصلاة في جماعة، إلا أن يكون الإمام نبيا أو صديقا. حكى هذا القول ابن عبدالبر في التمهيد ، وأشار إلى أنه قول محدث، ومخالف لجماعة المسلمين، كما أنهم قد خالفوا بذلك ما تواتر عن النبي في أفضلية الصلاة مع الجماعة.
قلت: وليس لهم في ذلك دليل يعتمد عليه إلا مجرد الرأي، بل هو مصادم للنصوص الدالة على فضل الجماعة ولزوم إقامتها على الأئمة في المسلمين، وهو على كل حال قول محدث ومردود كما أشار إلى ذلك ابن عبدالبر.
القول الثاني :
وهو قول داود الظاهري وابن حزم، أن الجماعة في المكتوبة فرض على الأعيان وشرط لصحة الصلاة، فلا تصح عندهم صلاة المنفرد، إلا عند وجود عذر شرعي، فتصح حينئذ.
واحتجوا على ذلك بأحاديث:
الحديث الأول: عن أبي هريرة ، قال النبي : (( والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عن الصلاة [وفي رواية: لا يشهدون الصلاة] فأحرق عليهم بيوتهم ))، وزاد في بعض الروايات: (( والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)).
قلت : هذا الحديث بهذا القدر مخرّج في الصحيحين وغيرهما، ولا غبار على صحته، ومعنى قولـه: (( يتخلفون عن الصلاة )) أي مع الجماعة في المسجد- كما ظهر ذلك من السياق، ويؤيده قولـه في بعض الروايات: (( لا يشهدون الصلاة )) أي لا يحضرونها. وما جاء في الحديث من تعيين العشاء وارد في كثير من الروايات بأسانيد صحيحة. والحديث أخرجه البيهقي في الكبرى (3/55) وذكر فيه (( الجمعة )) بدل (( العشاء ))، وهذه الزيادة تفرد بها معمر، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، فهي شاذّة، خالفه فيها وكيع، وكثير بن هشام، وأبو نعيم، فليس في حديثهم عن جعفر بن برقان ذكر تلك الزيادة، وما رواه هؤلاء أصحّ. نعم، ورد ذكر (( الجمعة )) أيضا في حديث أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، عن عبدالله بن مسعود، مرفوعا، بلفظ: (( لقد هممت أن آمررجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم ))، أخرجه مسلم من طريق زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، به، ومثله عند عبد الرزاق من طريق معمر بن راشد، عن أبي إسحاق، وأخرجه أحمد (برقم3743) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، بلفظ: ((...ثم آمر بأناس لا يصلون معنا فتحرق عليه بيوتهم ))، فلم يذكر فيه: (( الجمعة ))، وهذا أصحّ، لأن إسرائيل أثبت في حديث أبي إسحاق من زهير ومعمر كليهما، قال صالح بن أحمد عن أبيه: ” في حديث زهير عن ابن إسحاق لين، سمع منه بآخرة “، وأما معمر فمعلوم عند النقاد أن حديثه عن أهل الكوفة مضطرب، وأبو إسحاق شيخه هنا كوفي، وعدم ذكر (( الجمعة )) موافق لمعنى حديث أبي هريرة فيما صحّ عنه من الروايات، بل الظاهر عندي أن القصة هي هي. وقد روي في الحديث زيادات أخرى لم تصح كذلك، منها: ما جاء عند أبي داود في سننه (برقم549) من زيادة قولـه: (( ليست بهم علة ))، وهي في سياق الحديث هكذا: ((... فأخالف إلى رجال يصلون في بيوتهم ليست بهم علة ))، وهذه الزيادة منكرة كذلك، تفرد بها يزيد بن يزيد الرقي، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، ويزيد الرقي لا يعرف حاله. ومنها: ذكر (( سماع النداء )) - كما جاء عند أحمد (2/539)، وابن راهويه (برقم311)-، وهي في سياق الحديث هكذا: ((... فأحرق بيوت قوم يسمعون النداء ولا يشهدون الصلاة ))، وهذه الزيادة شاذة أيضا، تفرد بها كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، وخالفه وكيع عن جعفر بن برقان فلم يذكر الزيادة، وما رواه وكيع أصح، لموافقته أكثر الروايات الصحيحة عن أبي هريرة من غير طريق جعفر بن برقان. ومنها: ما ورد عند أحمد أيضا (3/267) من رواية أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : (( لو ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في بيوت الناس ))، وهذا إسناده ضعيف لضعف أبي معشر السندي وقد تفرد به ولم يتابع عليه. ومنها: ما جاء عند أحمد (2/292) من رواية ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبي هريرة، أن النبي قال: (( لينتهين رجال حول المسجد لا يشهدون العشاء الأخيرة في الجميع، أو لأحرقن حول بيوتهم بحزم الحطب ))، ولم يعرف هذا السياق في حديث أبي هريرة إلا من جهة عجلان، وهو شاذ، يعني قولـه: (( لينتهين رجال حول المسجد)) وقوله (( في الجميع ))، على أن هذا الأخير إنما ذكره يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، وخالفه هاشم بن القاسم، فلم يذكره. ومنها: ما جاء عند ابن ماجه (برقم795) من رواية الوليد بن مسلم، عن ابن أبي ذئب، عن الزبرقان بن عمرو الضمري، عن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله : (( لينتهين رجال عن ترك الجماعة، أو لأحرقن بيوتهم ))، وهذا منقطع، لأن الزبرقان لم يسمع من أسامة، ثم هذا السياق في حديث أسامة لم يعرف إلا من رواية الوليد بن مسلم، ورواه يزيد بن هارون وغيره، عن ابن أبي ذئب، بلفظ: (( لقد هممت أن أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة بيوتهم ))، وهذا أشبه. ومنها: ما جاء عند أحمد (2/377) من رواية عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: جاء رسول إلى المسجد فرآهم عزين متفرقين، قال: فغضب غضبا شديدا ما رأيناه عضب غضبا أشد منه، فذكر توعده على من تخلف عن الصلاة، وفيه: (( ثم أتتبع هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة في دورهم فأحرقها عليهم ))، فالزيادة التي في صدر الحديث شاذة، تفرد بها عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وعاصم قد تكلم فيه من قبل حفظه، والباقون رووه عن أبي هريرة بعدم ذكر الزيادة، وهذا أصحّ، وأما زيادة قولـه: (( في دورهم )) فقد وردت كذلك عند الطبراني في الأوسط (برقم438) بسند حسن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، ولفظه فيه: ((... ثم آتي قوما في دورهم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ))، وهذا عندي من قبيل الرواية بالمعنى ولا يضرّ بها الحديث، والجار والمجرور في قولـه (( في دورهم )) في سياق حديث عاصم متعلقان بفعل (( أتتبع )) لا بفعل (( يتخلفون ))، ويوضح هذا سياق حديث ابن أبي أنيسة المتقدم. نعم، ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، زيادة في أول الحديث، يعني قوله: (( إن أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر...))، وفيه بحث، فإن الحديث لم أعرفه روي بهذا الوجه من حديث أبي هريرة إلا من جهة الأعمش وحده، وقد اختلف عليه فيه، فرواه بذكر تلك الزيادة عنه حفص بن غياث، وزائدة، وأبو الأحوص، ومعمر بن راشد، وخالفهم شعبة فلم يذكرها في حديثه، ورواه أبو معاوية وابن نمير مرتين بكلا الوجهين، وزد على هذا أن الأعمش لم يكن هو وحده راوي هذا الحديث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بل شاركه فيه عاصم بن بهدلة، فلم يذكر تلك الزيادة، وعاصم وإن كان هو دون الأعمش في الثقة والإتقان إلا أن حديثه هنا موافق لما رواه الجماعة، عن أبي هريرة، إذ لم يذكروا في حديثهم تلك الزيادة أيضا، وما رواه الجماعة عندي أرجح، وهؤلاء الجماعة: عبدالرحمن بن هرمز، وهمام بن منبه، وحميد بن عبدالرحمن، وعجلان مولى فاطمة بنت عتبة، وعجلان مـولى المشمعـل، وسعيد الـمقـبري، ويزيد بن الأصم، وأبو ليلى مولى الأنصار، وأبو حازم الأشجعي1.
وقد فصلت الكلام على هذه الألفاظ في موضعها في المبحث الثاني في حديث الرابع حديث أبي هريرة وقد تبين بذلك، كثير من الإشكالات الواردة في توجيه معنى الحديث كما سيأتي.
أما الإستدلال لمن استدل بهذا الحديث على وجوب صلاة الجماعة فمن جهة أن النبي قد همّ بتحريق بيوت المتخلفين عنها، قالوا: ولم يكن النبي ليهمّ بتحريق المسلمين إلا على ترك واجب، وأما كونها شرطا للصحة عند الظاهرية فلما تقرر عندهم من أن ما كان واجبا في العبادة كان شرطا فيها، وتعقب بأن الوجوب قد ينفك عن الشرطية حتى في العبادات، وذلك كالإحرام من الميقات، فإنه واجب باتفاق أهل العلم، عملا بحديث المواقيت، ولم يقل أحد منهم بأن ذلك شرط لصحة الإحرام.
ثم احتجاجهم بحديث الهمّ المذكور على الوجوب متعقب بأن الحديث لا يبلغ بدلالته حدّ الجزم على المطلوب، يعني: الوجوب، لاحتماله وجوها كثيرة؛
أحدها: أنّ الحديث لا يراد به حقيقته، وإنما يراد به المبالغة، لوروده مورد الزجر، ويرشد إلى هذا المعنى وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك. هذا القول حكاه الحافظ ابن حجر في الفتح3عن الباجي وغيره، وأشار إلى أن ذلك مدفوع بكون المنع المذكور إنما وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قبل ذلك جائزا، وعلى هذا لا يكون حمل التهديد على حقيقته ممتنعا، وقد استدلّ الحافظ على قولـه هذا بما أخرجه البخاري في كتاب الجهاد عن أبي هريرة، قال: (( بعثنا رسول الله في بعث، فقال: إن وجدتم فلانا وفلانا فحرقوهما بالنار، ثم قال رسول الله حين أراد الخروج: إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما ))، وهذا صريح في أن التحريق بالنار كان جائزا ثم نُسخ .
قلت: وفيما قاله الحافظ هنا عندي نظر، لأنه لم يثبت عن النبي في مسألة التحريق بالنار غير هذا الحديث وحديث الباب في همّه بتحريق قوم يتخلفون عن الصلاة، وكلا الحديثين من رواية أبي هريرة، ولا دليل على أسبقية أحد الحديثين على الآخر، ولو سلمنا أسبقية حديث الهمّ فإن الاستدلال به على جواز التحريق بالنار لا يتمّ، لأن النبي همّ ولم يفعل، فلا يتعلق به حكم بخصوص جواز التحريق بالنار أو عدمه، وأما نهيه في حديث أبي هريرة عن التحريق بالنار بعد أن أمر بذلك فلا يسلمّ اعتبار ذلك نسخا عندي لاحتمال أن يكون قاله اجتهادا ثم استدركه بقولـه: (( إن النار لا يعذب بها إلا الله )) ، وهذا فيه إشارة إلى علة النهي، إذ معناه: أن الله هو المختص بذلك الأمر، فلا ينبغي لأحد منازعته فيه، ومجيء لفظ البيان بصيغة الإخبار هنا يفيد تأكيد النهي مع الإيماء بأن الأصل الثابت المتقرر في التحريق بالنار هو النهي، لأنه من اختصاص الله عز وجلّ، ويظهر منه أنّ النبي أمره أولا بالتحريق اجتهادا منه ولم يقر تشريعا كونه استدرك ذلك بالنهي مع بيان أن ذلك هو الأصل المتقرر وما جاء عنه في همّه بالتحريق بالنار على المتخلفين عن صلاة الجماعة الذي فيه إيماء يدلّ على الزجر لا الحقيقة، وفيه أسلوب من أساليب العربية في التغليظ والزجر مع عدم جواز الفعل، فمن هذه الجهة نعلم صحة توجيه الباجي لحديث الهمّ المذكور بأنه لا يراد به حقيقته، لأنه ورد مورد التغليظ والزجر، وقد تقرر شرعا بأن النار لا ينبغي أن يعاقب بها إلا الله مطلقا، فلا يجوز معاقبة الكفار بها فضلا عن المسلمين، والله أعلم.
الوجه الثاني: أن الحديث ورد في الحثّ على مخالفة فعل أهل النفاق، والتحذير من التشبّه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، هذا القول حكاه أيضا الحافظ في الفتح ونسبه إلى ابن المنير، ثم أشار إلى أنه قريب من الوجه الذي ذكره الباجي.
قلت: وتوضيح هذا أن يقال: إن مبالغة النبي في زجرهم عن التخلف عن صلاة الجماعة مقصد من مقاصد الشارع لأجل تعظيم هذه الشعيرة وترسيخها في قلوب المسلمين، وسدّا لذريعة التخلّف عنها بالجملة والكلية أو الرغبة عنها كما هو شأن أهل النفاق، ولهذا المعنى ناسب أن يكون ذلك الزجر على وجه غليظ لأجل المبالغة في الحث على مخالفة أهل النفاق تجاه هذه الشعيرة العظيمة، ويرشد إلى هذا قوله في بعض الروايات: (( والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء ))، ومن المستبعد أن يتصف المؤمن بمثل هذه الخصلة، بل لا يصدق ذلك إلا على أهل النفاق، وكان ذلك تنفيرا للمسلمين من أن تكون تلك الخصلة فيهم. والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: أن المعني بالتهديد في الحديث هم قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة، ذكر هذا القول أيضا الحافظ في الفتح ولم ينسبه لأحد، وهو - كما أفاده الحافظ- قول بعيد، لمخالفته ظاهر سياق الحديث الدالّ على أن المراد صلاة الجماعة، لا مطلق الصلاة، ويؤكده قوله في بعض الروايات: (( لا يشهدون الصلاة )) أي: لا يحضرون.
الوجه الرابع: إن فرضية الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سدّ باب التخلف عن الصلاة على المنافقين، ثم نسخ بعد ذلك، ذكر هذا المعنى أيضا الحافظ في الفتح، وقال: حكاه القاضي عياض عن بعضهم، وقد أشار الحافظ إلى أن هذا القول يمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار بما صح عن ابن عباس مرفوعا أنه: (( لا يعذّب بالنار إلا صاحب النار ))، وبالأحاديث الصحيحة الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ، لأن ذلك كما أشرنا سابقا يقتضي الإشتراك في أصل الفضل، وأن من لازم ذلك الجواز.
قلت: وفي هذا عندي نظر، لأننا لو سلّمنا بأن الجماعة كانت فرضا أول عهد الإسلام حسب العلة التي ذكرت، فإننا لا نسلّم بأن وقوع نسخ التحريق بالنار بعد ذلك يلزم منه نسخ تلك الفرضية، إذ لا تلازم بين الأمرين، وهذا الكلام إنما أوردناه على فرض تسليمنا لمسألة نسخ التحريق بالنار، وقد تقدم ما فيه، ثم يقال: إن دعوى الفرضية إنما بنيت على هذا الحديث وهو محل النزاع وعليه وردت الاحتمالات التي نحن بصدد ذكرها في هذا الموضع، فدعوى النسخ على فرض لم يتقرر لا تثبت، فضلا عما يجب اعتباره في ثبوت النسخ، والله أعلم.
الوجه الخامس: أن الحديث يحتمل أن يكون ورد في حق قوم من المنافقين، فلا يكون التهديد لترك الجماعة بخصوصه، لقولـه في صدر الحديث -كما جاء في بعض الروايات-: (( ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر )). هذا القول حكاه النووي في المجموع1 عن الشافعي، وقوّاه الحافظ على الوجه الذي ذكره في الفتح كما سيأتي.
وعلى هذا التوجيه يكون التهديد في الحديث وقع على حقيقته في حق قوم من المنافقين، لأجل تحذيرهم من التمادي على النفاق وأسبابه، وتنفيرا لغيرهم من التشبه بهم، وسدّا لذريعة تخلف الآخرين عن صلاة الجماعة احتجاجا بمن تخلف عنها من المنافقين.
وهذا القول أيده الشوكاني حيث قال في نيل الأوطار2 عند شرحه لحديث ابن مسعود الموقوف المخرج في صحيح مسلم وغيره: (( من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف )) - قال (يعني: الشوكاني): ” فيه حجة لمن خص التوعد بالتحريق بالنار المتقدم في حديث أبي هريرة بالمنافقين “ اهـ.
قلت: وهذا كله غير مسلّم لأمور، أولا: لأن زيادة قوله: (( إن أثقل الصلاة على المنافقين الفجر والعشاء )) لم تصحّ في هذا الحديث، كما تقدمت الاشارة إليه، ثانيا: أن ما جاء عن ابن مسعود موقوف عليه ولم يرفعه، والحجة إنما هي في كلام الله وكلام رسول الله، ثالثا: أن التوجيه المذكور متعقب بأنه ليس في أحكام الشريعة ما يدلّ على التفريق في الخطاب بأن يكون موجّها به إلى قوم من المنافقين أو إلى المسلمين، لأن الشّارع لم يكن ليفرق بين الفريقين من حيث الظاهر. وعلى هذا لا يكون ما قاله الشافعي ومن تابعه كافيا لصرف معنى حديث الهمّ عن ظاهره، يعني الوجوب، فليتأمل.
قال الحافظ: ” والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين، لقوله في صدر الحديث: (( ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر )) الحديث، ولقوله: (( لو يعلم أحدهم... إلخ ))، لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين، لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد نفاق المعصية، لا نفاق الكفر، بدليل قوله في رواية عجلان: (( لا يشهدون العشاء في الجميع ))، وقوله في حديث أسامة: (( لا يشهدون الجماعة ))، وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود: (( ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة))، فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته، إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، نبه عليه القرطبي، وأيضا فقوله في رواية المقبري: (( لولا ما في البيوت من النساء والذرية )) يدلّ على أنهم لم يكونوا كفارا، لأن تحريق بيت الكافر إذا تعيّن طريقا للغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته. وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدلّ على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها “- اهـ كلام الحافظ.
قلت: ما أشار إليه الحافظ من رواية عجلان وحديث أسامة ورواية زيد الأصم ورواية المقبري كله لم يصحّ، وتقدمت الإشارة إليه، فسقط ما اجتمع له من معنى في هذه الروايات، والكلام في هذا قريب من الذي قبله، فليس ما قاله الحافظ هنا كافيا لصرف معنى حديث الهمّ عن ظاهره، وهو الوجوب، لأن ذلك لا يتم إلا أن يقال بأن جواز المعاقبة بالتحريق قبل نسخه كان مقصورا على الكفار دون المسلمين، وهذا لا دليل عليه، وحديث الهمّ المذكور يدلّ على خلافه، ولا يقال بأن هذا يتعارض مع قوله : (( من قال لا إله إلا الله فقد عصم مني دماءهم إلا بحقها ))، لأن ما ورد به الشرع فهو حق لا يردّ، وقد يكون التحريق المذكور شرع على الخصوص، فلا وجه لمعارضته بالعموم، وهذا الكلام إنما أوردناه على فرض تسليمنا لمسألة النسخ المذكور - وقد تقدم ما فيه -، وتماشيا مع قول من قال بأنه لا يهمّ إلا بما يجوز فعله لو فعله، وسيأتي الكلام فيه قريبا، وبالله التوفيق.
الوجه السادس: أن الحديث غاية ما فيه وجوب حضور جماعة النبي في مسجده لسامع النداء، بدليل حديث الأعمى الذي طلب من النبي الرخصة في ترك حضور الصلاة مع جماعته فلم يرخص له النبي لكونه سمع النداء. أفاد هذا القول الصنعاني في سبل السلام عند شرحه لحديث الأعمى المذكور، وأيده الشوكاني في نيل الأوطار1 حيث قال: ” اعلم أن الاستدلال بـحديثي الأعمى وحديث أبي هريرة في الباب على وجوب مطلق الجماعة فيه نظر، لأن الدليل أخص من الدعوى، إذ لو كان الواجب مطلق الجماعة لقال في المتخلفين إنهم لا يحضرون جماعته ولا يجمعون في منازلهم، ولقال لعتبان بن مالك: أنظر من يصلي معك، ولجاز الترخيص للأعمى بشرط أن يصلي في منزله جماعة “ اهـ.
قلت: وحديث الأعمى المذكور على كثرة طرقه وتعدد رواياته ضعيف لا يحتج به 2، ومع ضعف الحديث لا يتم الاعتماد على ما يبنى عليه من التأويل، والله أعلم.
الوجه السابع: أن الحديث يؤخذ من ظاهره أصلا عدم الوجوب، لأن النبي همّ بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة واجبا ما همّ بتركها إذا توجه. حكاه الحافظ في الفتح نقلا عن ابن بزيزة عن بعضهم. قال الحافظ: ” وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه “، قال: ” وليس فيه أيضا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين “.
قلت : لاكنه لم يقع التحريق وقع أنه أوجب من صلاة الجماعة، فالقول بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب لا بد أن يكون قد وقع الأوجب ليستقيم لقائله ولم يثبت ولو عكس لاستدل به على الجماعة أو جب من التحريق على من تخلف عنها لكان أظهر.
الوجه الثامن: أن يقال إن النبي ترك تحريقهم بعد التهديد، فلو كان واجبا ما عفا عنهم، ذكره الحافظ في الفتح، ثم قال: ” قال القاضي عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجة [يعني: على الوجوب] لأنه همّ ولم يفعل، زاد النووي: ولو كانت فرض عين لما تركهم، وتعقبه ابن دقيق العيد، فقال: هذا ضعيف، لأنه لا يهمّ إلا بما يجوز له فعله لو فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه قد جاء في بعض الطرق، بيان سبب الترك، وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: (( لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ... )) الحديث “ اهـ.
قلت: تقدمت الإشارة إلى ضعف هذه الرواية، وما تعقب به ابن دقيق العيد - من أن النبي لا يهمّ إلا بما يجوز له فعله لو فعله- غير مسلّّّم، وقد ثبت عن النبي أنه فعل أشياء اجتهادا منه ثمّ تعقبه الله سبحانه وبيّن أن الصواب على خلاف ما فعل، فجواز ورود الخطأ عليه فيما همّ به أولى، ثمّ إن إخباره بما همّ به من فعل قد يكون لقصد التغليظ والزجر كما هنا، فليس الشأن حينئذ بيان مشروعية ذلك الفعل الذي همّ النبي بتنجيزه، بل المقصود منه المبالغة في الزجر والترهيب عن الأمر الذي لأجله أخبر النبي بما همّ به، قال الشوكاني في إرشاد الفحول (1/223- تحقيق أبي حفص الأثري) عند تحقيقه لمسألة ما همّ به النبي ولم يفعله هل يعدّ من أقسام السنة أم لا، ما نصه: ” والحق أنه ليس من أقسام السنة، لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له، وليس ذلك مما آتانا الرسول، ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه، وقد يكون إخباره بما همّ به للزجر، كما صحّ عنه أنه قال: (( لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم )) “ اهـ.
الوجه التاسع: أن الوعيد في الحديث إنما هو في حق المتخلفين عن الجمعة، بدليل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: (( لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم ))، وهذا المعنى حكاه ابن القيم في كتاب الصلاة (ص63) وتعقبه بقوله: ” نعم، هو في حق تارك الجمعة وتارك الجماعة، فحديث أبي هريرة صريح في أنه في حق تارك الجماعة، وذلك بين في أول الحديث وآخره، وحديث ابن مسعود صريح في أن ذلك لتارك الجمعة أيضا فلا تنافي بين الحديثين “ اهـ.
قلت: تقدمت الإشارة إلى أن ذكر (( الجمعة )) في حديث عبدالله بن مسعود شاذّ، فسقط هذا القول جملة، وتعقيب ابن القيم هنا جاء في معرض الرد على القول المذكور لتأييد ما ذهب إليه من وجوب الجماعة استدلالا بحديث أبي هريرة المذكور، وقد تقدم الكلام فيه.
فهذه تسعة أوجه أوردها أهل العلم في تأويل حديث الهمّ، وأكثرها - كما ترى - لا يخلو من ضعف وتعسف، وأصحها عندي وجهان، أحدهما: ما قاله الباجي وغيره بأن الحديث لا يقصد به حقيقته، وإنما يراد به المبالغة في الزجر عن التخلف عن صلاة الجماعة، والثاني- وهو الذي أشار الحافظ إلى أنه قريب من معنى ما قاله الباجي-: أنه يراد به المبالغة في الحث على مخالفة أهل النفاق حيث كان التخلف عنها ديدنا لهم وصفة من صفاتهم، وهذان الوجهان يكمل بعضهما بعضا، ومفادهما أن الحديث لا يبلغ بدلالته حدّ المطلوب عند القائلين بالوجوب فضلا عن القائلين بالشرطية، بل غاية ما فيه أن صلاة الجماعة شعيرة هامة ومن السنن المؤكدة فمن تركها حينا دون آخر بغير عذر فلا إثم عليه، أما من اعتاد التخلّف عنها فإنه يخشى عليه أن يكون تاركا بالجملة لسنة من سنن المصطفى عليه السلام وشعيرة من شعائر الدين، وفيه من خصال أهل النفاق ما أشبههم بها، وهذا المعنى هو الذي يتفق مع قرينة المقام وتصدقه النصوص الأخرى القاضية بجواز صلاة المنفرد، ومن هذه الجهة يعرف ضعف استدلالهم بحديث الهمّ المذكور على وجوب صلاة الجماعة، فضلا عن كونها شرطا للصحة. والله أعلم.
الحديث الثاني: عن مالك بن الحويرث الليثي ، قال: قال لنا رسول الله : (( إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ثم ليؤمكما أكبركما )). أخرجه الشيخان وغيرهما.
قلت: هذا الحديث متفق على صحته، وفيه بيان مشروعية إمامة الأكبر سنا لمن هو دونه، وليس فيه أي دلالة على أن صلاة الجماعة واجبة، فضلا عن كونها شرطا للصحة.
وبيان ذلك: أن قولـه: (( فأذنا، وأقيما )) لا يصلح أن يفهم منه وجوب قيامهما جميعا بالأذان والإقامة كلما حضرت الصلاة، بل يكفي قيام واحد منهما دون الآخر، وهذا محمول على ما إذا كانا مجتمعين في موضع، وإلا فإنهما لا يؤمران بأن يجتمعا كلما حضرت الصلاة، ومثل هذا قولـه: (( ليؤمكما أكبركما )) - أي عند اجتماعهما، وهذا يبينه المقام، فإن النبي إنما قال ذلك حين اسئذانهما لـه أن يرجعا إلى بلدهما، وذلك بعد أن قضيا أياما بحضرة النبي وهو يعلّمهما الدين، فمورد قولـه: (( ليؤمكما أكبركما )) إنما هو للإرشاد، كما أن ذلك جاء لبيان من هو أحق بالإمامة فيهما، لاستوائهما في القراءة والهجرة، فهذا هو وجه الحديث، وليس فيه كما بينا أي دلالة على وجوب الجماعة، فضلا عن كونها شرطا للصحة.
الحديث الثالث: عن أبي هريرة ، قال: (( أتى النبي رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله أن يرخص لـه، فيصلي في بيته، فرخص لـه. فلما ولى دعاه وقال لـه: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال رسول الله : فأجب )) .
قلت: هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، ولم يذكر في الباب غيره، وأخرجه أيضا ابن راهويه وآخرون، وهو عندي حديث ضعيف سندا ومتنا.
أما من جهة الاسناد: فلأن مداره على مروان بن معاوية الفزاري، عن عبيد الله بن الأصم، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة - وعبيدالله بن الأصم مقبول الرواية حيث يتابع، ولا متابع لـه هنا، ومروان الـفـزاري وثقه أحمد وابن معين، وقال أبو حاتم: ” صدوق، لا يدفع عن صدق، وتكثر روايته عن الشيوخ المجهولين “، وقال ابن نمير: ” كان يلتقط الشيوخ من السكك “، وقال عبدالله بن علي بن المديني عن أبيه: ” ثقة فيما روى عن المعروفين، وضعفه فيما روى عن المجهولين “، وبمثل هذا قال العجلي في الثقات، وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال الذهبي في الميزان: ” ثقة عالم صاحب حديث، لكن يروي عمن دب ودرج، فيستأنى في شيوخه “، وقال الحافظ في التقريب: ” ثقة حافظ، وكان يدلس أسمــاء الشيوخ “. والحديث روي بمعناه عن كعب بن عجرة وابن أم مكتوم وجابر بأسانيد كلها ضعيفة.
وأما من جهة المتن: فلأن الحديث في معناه عندي نكارة، لأن النبي قد رخص لعتبان بن مالك - وقد أنكر بصره - أن يصلي في بيته، وهذا ثابت في الصحيحين وغيرهما، فلا يقارن به حديث الأعمى المتقدم، وحديث عتبان هذا يتفق معناه وما جاء به الشارع من إرادة التيسير للعباد ورفع الحرج عنهم، قال تعالى: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج }[سورة الفتح: آية 17]، فهذا نص في رفع الحرج عن الأعمى.
وعلى هذا فلا يصح الاحتجاج بحديث الأعمى المذكور لضعف سنده ونكارة معناه1.
ثم لو سلمنا بصحة الحديث فإننا لا نسلم بصحة الاستدلال به على وجوب صلاة الجماعة، قال الشوكاني في نيل الأوطار2: ” إعلم أن الاستدلال بـحديثي الأعمى وحديث أبي هريرة على وجوب مطلق الجماعة فيه نظر، لأن الدليل أخص من الدعوى، إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لسامع النداء، ولو كان الواجب مطلق الجماعة لقال في المتخلفين إنهم لا يحضرون جماعته ولا يجمعون في منازلهم، ولقال لعتبان بن مالك: أنظر من يصلي معك، ولجاز الترخيص للأعمى بشرط أن يصلي في منزله جماعة “ اهـ.
قلت: يعني بحديث أبي هريرة هنا حديثه في الهمّ بالتحريق، وما قاله الشوكاني هنا على التسليم بصحة حديث الأعمى و قد تقدم الكلام فيه بأنه لا يتمّ الاعتماد عليه لضعف مستنده ونكارة معناه.
وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار3 موجها معنى حديث الأعمى المذكور: ” وإنما أراد - والله أعلم-: لا أجد لك عذرا أو رخصة تلحق فضيلة من حضرها، فقد رخص لعتبان بن مالك في التخلف عن حضورها “ اهـ.
قلت: وعلى فرض صحة حديث الأعمى هذا فإن حمله على الأفضلية عندي هو المتعين - جمعا بينه وبين النصوص الأخرى الواردة في هذا الباب-، وكلام البيهقي هنا فيه ما يشعر بهذا المعنى، والله تعالى أعلم.
الحديث الرابع: عن ابن عباس : أن النبي قال: (( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة لـه إلا لعذر )).
قلت: هذا الحديث اختلف في رفعه ووقفه، وسيأتي في المبحث الثاني عند الكلام عن هذا الحديث أن الراجح فيه الوقف، لكونه رواية جماعة الثقات، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، وهؤلاء الثقات هم: علي بن الجعد، ووكيع، ووهب بن جرير، وعمرو بن مرزوق، وحفص بن عمر الحوضي، وسليمان بن حرب، وعبدالرحمن بن مهدي، وربيب شعبة محمد بن جعفر المعروف بغندر.
أما رواية الرفع فقد جاءت من طرق ستة كلها لا تصلح للاحتجاج.
أحدها: طريق هشيم ابن بشير، عن شعبة - كما أخرجه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه والدارقطني وغيرهم -، وهذا شاذ، لتفرد هشيم عن بقية أصحاب شعبة، ولأن هشيم مدلس وقد عنعنه في أكثر الروايات عنه، وما روي عنه بتصريح السماع لا يقوى لمعارضتة رواية الأكثر.
والثاني: طريق سعيد بن عامر، عن شعبة، وهذا أخرجه الحاكم في المستدرك، وإسناده ضعيف من أجل سعيد نفسه، قال عنه البخاري: ” كثير الغلط “، والراوي عنه سوار بن سهل، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ” يغرب“، وحكى الآجري في سؤالاته 1 عن أبي داود، قال: ” لو لم أثق به ما رويت عنه“، وقال عنه الذهبي في الميزان: ” لا يدرى من هو، والظاهر أنه صدوق“، وقال الحافظ في التقريب: ”صدوق“، وفيه أيضا إسماعيل بن يعقوب الصفار لا يعرف حاله.
والثالث: طريق أبي سليمان داود بن الحكم، عن شعبة، وهذا رواه الحاكم أيضا في المستدرك، وإسناده ضعيف من أجل أبي سليمان نفسه، قال عنه المزي: ” لا يعرف “، كما أن في إسناده أبو سعيد أحمد بن يعقوب الثقفي شيخ الحاكم لا يعرف حاله، وفيه الحسن بن علي بن شبيب، قال عبدالله بن أحمد عن المعمري: ” لا يتعمد الكذب، ولكن أحسب أنه صحب قوما يوصلون يعني المراسيل “.
والرابع: طريق قراد أبي نوح، عن شعبة، وهذا رواه الحاكم في المستدرك والدارقطني، وإسناده ضعيف من أجل قراد نفسه، وقد رماه الدارقطني بجهالة الحال، وقال الذهبي في الميزان: ” حدث عنه أحمد والكبار، وكان يحفظ، وله مناكير “ اهـ، ووهّن ابن معين أمره في حديث حدثه به.
والخامس: طريق مغراء العبدي، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أخرجها أبو داود والطبراني والحاكم والدارقطني والبيهقي، وإسناده ضعيف من أجل مغراء نفسه، قال الذهبي: ” تكلم فيه“، وفي الإسناد أيضا أبو جناب الكلبي ضعفه أبو حاتم وابن معين والنسائي والمنذري، وحكي عن الإمام أحمد توثيقه لكن مع وصفه بالتدليس، وقد عنعنه هنا.
والسادس: طريق سليمان بن حرب، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وهذا أخرجه قاسم بن أصبغ في مسنده، وفيه تفرد سليمان به عن بقية أصحاب شعبة، حيث رواه عنه مرفوعا، وجعله عن حبيب بن أبي ثابت، ورواية الجماعة عن شعبة، عن عدي بن ثابت، لا عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفا، ورواية الجماعة أرجح.
والحديث روي بمعناه عن علي بن أبي طالب، كما أخرجه عبدالرزاق والدارقطني، وفي إسناده الحارث الأعور، وهو ضعيف، وقد كذبه الشعبي، ورمي بالرفض، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة من رواية الحسن البصري، عن علي، وهذا إسناد منقطع، لأن الحسن لم يسمع من علي. والحديث روي أيضا بمعناه عن ابن مسعود من قولـه، أخرجه ابن أبي شيبة بسند ضعيف، لأن فيه أبا موسى الهلالي عن أبيه، وكلاهما مجهول. وروي أيضا عن أبي هريرة وجابر بن عبدالله مرفوعا، أخرج الأول ابن عدي في الكامل بسند ضعيف جدا، لأن فيه سليمان بن داود الهجري، منكر الحديث، وأخرج الثاني العقيلي في الضعفاء بسند ضعيف جدا كذلك، لأن فيه عبدالله بن بكير الغنوي، صاحب مناكير، ليس بالقوي، والراوي عنه محمد بن سكين ضعفه الحافظ في التقريب وقال عنه الذهبي في الميزان: ” لا يعرف، خبره منكر “.