الحمدلله وبعد
قال عيسى: يا رب وما طوبى؟
قال: غرس شجرة أنا غرستها بيدي، فهي اللجنان كلها، أصلها من رضوان، وماؤها من تسنيم، وبردها برد الكافور، وطعمها طعم الزنجبيل، وريحها ريح المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا
قال عيسى: يا رب اسقني منها، قال: حرام على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبي، وحرام على الأمم أن يشربوا منها حتى يشرب منها أمة ذلك النبي
قال: يا عيسى أرفعك إلي؟
قال: رب ولم ترفعني؟
قال: أرفعك ثم أهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب، ولتعينهم على قتال اللعين الدجال، أهبطك في وقت صلاة ثم لا تصلي بهم لأنها مرحومة، ولا نبي بعد نبيهم
وقال هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه أن عيسى قال: يا رب أنبئني عن هذه الأمة المرحومة، قال: أمة أحمد هم علماء حكماء كأنهم أنبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله. يا عيسى هم أكثر سكان الجنة لأنه لم تذل ألسن قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت به رقابهم. رواه ابن عساكر
وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن بديل العقيلي، عن عبد الله بن عوسجة قال: أوحى الله إلى عيسى بن مريم أنزلني من نفسك كهمك، واجعلني ذخرا لك في معادك، وتقرب إليّ بالنوافل أحبك، ولا تول غيري فأخذلك، اصبر على البلاء وارض بالقضاء، وكن لمسرتي فيك فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وكن مني قريبا، وأحي ذكري بلسانك، ولتكن مودتي في صدرك
تيقظ من ساعات الغفلة، واحكم في لطيف الفطنة، وكن لي راغبا راهبا، وأمت قلبك في الخشية لي، وراع الليل لحق مسرتي، واظمِ نهارك ليوم الري عندي، نافس في الخيرات جهدك، واعترف بالخير حيث توجهت، وقم في الخلائق بنصيحتي، واحكم في عبادي بعدلي، فقد أنزلت عليك شفاء وسواس الصدور من مرض النسيان، وجلاء الأبصار من غشاء الكلال، ولا تكن حلسا كأنك مقبوض وأنت حي تنفس
يا عيسى بن مريم ما آمنت بي خليقة إلا خشعت، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي، فأشهدك أنها آمنة من عقابي، ما لم تغير أو تبدل سنتي، يا عيسى ابن مريم البكر البتول ابك على نفسك أيام الحياة بكاء من ودع الأهل، وقلا الدنيا، وترك اللذات لأهلها، وارتفعت رغبته فيما عند إلهه، وكن في ذلك تلين الكلام، وتفشي السلام، وكن يقظان إذا نامت عيون الأبرار، حذار ما هو آت من أمر المعاد، وزلازل شدايد الأهوال، قبل أن لا ينفع أهل ولا مال
وأكحل عينك بملول الحزن إذا ضحك البطالون، وكن في ذلك صابرا محتسبا، وطوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين، رج من الدنيا بالله يوم بيوم، وذق مذاقة ما قد حرب منك أين طعمه وما لم يأتك كيف لذته، فرح من الدنيا بالبلغة، وليكفك منها الخشن الحثيث، قد رأيت إلى ما يصير، اعمل على حساب فإنك مسؤول، لو رأت عيناك ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك
وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن طاووس، عن أبيه قال: لقي عيسى بن مريم إبليس فقال: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك؟ قال إبليس: فارقَ بذروة هذا الجبل فتردى منه فانظر هل تعيش أم لا - فقال ابن طاووس - عن أبيه فقال عيسى: أما علمت أن الله قال: لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت
وقال الزهري: إن العبد لا يبتلي ربه، ولكن الله يبتلي عبده
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة، أنبأنا سفيان، عن عمرو، عن طاووس قال: أتى الشيطان عيسى بن مريم فقال: أليس تزعم أنك صادق، فاتِ هوة فألق نفسك قال: ويلك أليس قال: يا ابن آدم لا تسألني هلاك نفسك، فإني أفعل ما أشاء
وقال حسين بن طلحة، سمعت خالد بن يزيد قال: تعبد الشيطان مع عيسى عشر سنين أو سنتين، أقام يوما على شفير جبل، فقال الشيطان: أرأيت أن ألقيت نفسي هل يصيبني إلا ما كتب لي؟ قال: إني لست بالذي أبتلي ربي، ولكن ربي إذا شاء ابتلاني، وعرفه أنه الشيطان ففارقه
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا شريح بن يونس، حدثنا علي بن ثابت، عن الخطاب بن القاسم، عن أبي عثمان قال: كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر
قال: نعم
قال: ألق نفسك من هذا الجبل، وقل قدر علي
فقال: يا لعين، الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله عز وجل
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الفضل بن موسى البصري، حدثنا إبراهيم بن بشار سمعت سفيان بن عيينة يقول: لقي عيسى بن مريم إبليس فقال له إبليس: يا عيسى بن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تكلمت في المهد صبيا، ولم يتكلم فيه أحد قبلك قال: بل الربوبية للإله الذي أنطقني ثم يميتني ثم يحيني
قال: فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحي الموتى، قال: بل الربوبية لله الذي يحي من يشاء ويميت من أحييت ثم يحييه
قال: والله إنك لإله في السماء وإله في الأرض، قال: فصكه جبريل صكة بجناحيه، فما نباها دون قرون الشمس، ثم صكه أخرى بجناحيه فما نباها دون العين الحامية، ثم صكه أخرى فأدخله بحار السابعة فأساخه، وفي رواية فأسلكه فيها حتى وجد طعم الحمأة، فخرج منها وهو يقول: ما لقي أحد من أحد ما لقيت منك يا ابن مريم
وقد روي نحو هذا بابسط منه من وجه آخر
روى الحافظ أبو بكر الخطيب: عن أبى سلمة سويد عن بعض أصحابه قال: صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له: إنه لا ينبغي لك أن تكون عبدا، فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه، فجعل لا يتخلص منه، فقال له فيما يقول: لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبدا، قال: فاستغاث عيسى بربه فأقبل جبريل وميكائيل، فلما رآهما إبليس كف، فلما استقر معه على العقبة اكتنفا عيسى، وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه في بطن الوادي
قال: فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك، فقال لعيسى: قد أخبرتك أنه لا ينبغي أن تكون عبدا، إن غضبك ليس بغضب عبد، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت، ولكن أدعوك لأمر هو لك آمر الشياطين فليطيعوك، فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلها ليس معه إله، ولكن الله يكون إلها في السماء، وتكون أنت إلها في الأرض
فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه، وصرخ صرخة شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل، فكف إبليس فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه، فصك به عين الشمس، ثم ضربه ضربة أخرى فأقبل إبليس يهوي، ومر عيسى وهو بمكانه فقال: يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعبا شديدا فرمى به في عين الشمس، فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية، قال: فغطوه فجعل كلما صرخ غطوه في تلك الحمأة، قال: والله ما عاد إليه بعد
قال: وحدثنا إسماعيل العطار، حدثنا أبو حذيفة قال: واجتمع إليه شياطينه فقالوا: سيدنا قد لقيت تعبا، قال: إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل، وسأضل به بشرا كثيرا، وأبث فيهم أهواء مختلفة، وأجعلهم شيعا ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله، قال: وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقا بذكر نعمته على عيسى، فقال: { يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ... } [المائدة: 110]
يعني: إذ قويتك بروح القدس - يعني جبريل - { تكَلِّمُ النَاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذ عَلَّمْتكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذ تَخلقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } الآية كلها، وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانا، ترضى بهم وصحابة وأعوانا يرضون بك، هاديا وقائدا إلى الجنة، فذلك فاعلم خلقان عظيمان، من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي، وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا، وصلينا فلم يقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم يقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا
فقل لهم: ولم ذلك وما الذي يمنعني إن ذات يدي؟ قلت: أوليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء، وإن البخل لا يعتريني، أولست أجود من سأل، وأوسع من أعطى؟ أو أن رحمتي ضاقت، وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي، ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غروا أنفسهم بالحكمة التي تورث في قلوبهم، ما استأثروا به الدنيا أثره على الآخرة
لعرفوا من أين أوتوا، وإذا لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام، وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربوني، ويستحلون محارمي؟ وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها؟ يا عيسى إنما أجزي عليها أهلها، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء؟
ازددت عليهم غضبا يا عيسى، وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أنه من عبدني وقال: فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار، ورفقائك في المنازل، وشركاءك في الكرامة، وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الأسفل من النار
وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أني مثبت هذا الأمر على يدي عبدي محمد، وأختم به الأنبياء والرسل، ومولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يتزين بالفحش، ولا قوال بالخنا، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل التقوى ضميره، والحكم معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته، والحق شريعته، والإسلام ملته، اسمه أحمد، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأغني به بعد العائلة، وأرفع به بعد الضيعة، أهدي به وأفتح به بين آذان صم وقلوب غلف وأهواء مختلفة متفرقة، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، إخلاصا لاسمي وتصديقا لما جاءت به الرسل
ألهمهم التسبيح والتقديس والتهليل في مساجدهم، ومجالسهم، وبيوتهم، ومنقلبهم، ومثواهم يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، قرباتهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، وقربانهم في بطونهم، رهبان بالليل، ليوث في النهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم
وقد روى أبو حذيفة إسحق بن بشر بأسانيده، عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وابن عباس، وسلمان الفارسي، دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما بعث عيسى بن مريم، وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بني إسرائيل يعجبون منه ويستهزؤن به، فيقولون: ما أكل فلان البارحة وما ادخر في منزله؟ فيخبرهم فيزداد المؤمنون إيمانا، والكافرون والمنافقون شركا وكفرانا
وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوي إليه، إنما يسيح في الأرض ليس له قرار، ولا موضع يعرف به، فكان أول ما أحيا من الموتى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي، فقال لها: مالك أيتها المرأة؟
فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت، أو يحييها الله لي فأنظر إليها
فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت؟ قالت: نعم
قالوا: فصلى ركعتين، ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن، فاخرجي قال: فتحرك القبر، ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عني؟
فقالت: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكا فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إليّ روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيامة
ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين، يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته سل ربي أن يردني إلى الآخرة، وأن يهون علي كرب الموت، فدعا ربه فقبضها إليه، واستوت عليها الأرض، فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا
وفي قصة نوح أن بني إسرائيل سألوه أن يحيي لهم سام بن نوح، فدعا الله عز وجل وصلى لله فأحياه الله لهم، فحدثهم عن السفينة وأمرها، ثم دعا فعاد ترابا
وقد روى السدي، عن أبي صالح وأبي مالك، عن ابن عباس في خبر ذكره: وفيه أن ملكا من ملوك بني إسرائيل مات، وحمل على سريره، فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عز وجل فأحياه الله عز وجل، فرأى الناس أمرا هائلا، ومنظرا عجيبا
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: { إِذ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذ أَيَّدتكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ *وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [المائدة: 110-111] يذكره تعالى بنعمته عليه، وإحسانه إليه في خلقه إياه من غير أب، بل من أم بلا ذكر، وجعله له آية للناس، ودلالة على كمال قدرته تعالى، ثم إرساله بعد هذا كله { وَعَلى وَالِدَتِكَ } في اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة، وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون
ولهذا قال: { إِذ أَيَّدْتكَ بِرُوحِ الْقدُسِ } وهو: جبريل بإلقاء روحه إلى أمه، وقرنه معه في حال رسالته، ومدافعته عنه لمن كفر به { تكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي: تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي كهولتك { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي: الخط والفهم، نص عليه بعض السلف { وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وقوله: { وَإِذ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } أي: تصوره وتشكله من الطين على هيئته، عن أمر الله له بذلك { فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِي } أي: بأمري، يؤكد تعالى بذكر الإذن له في ذلك لرفع التوهم.
وقوله: { وَتبْرِئُ الْأَكْمَهَ } قال بعض السلف: وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لأحد من الحكماء إلى مداواته { وَالأَبْرَصَ } هو الذي لا طب فيه بل قد مرض بالبرص
وقوله: { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } وذلك حين أرادوا صلبه فرفعه الله إليه، وأنقذه من بين أظهرهم، صيانة لجنابه الكريم عن الأذى، وسلامة له من الردى
وقوله: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } قيل: المراد بهذا الوحي وحي إلهام، أي أرشدهم الله إليه ودلهم عليه كما قال: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } [النحل: 68
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ }
[القصص: 7]
وقيل: المراد وحي بواسطة الرسول، وتوفيق في قلوبهم، لقبول الحق، ولهذا استجابوا قائلين: { آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }
وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى بن مريم، أن جعل له أنصارا وأعوانا ينصرونه ويدعون معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى لعبده محمد :{ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 62-63
وقال تعالى:{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[آل عمران: 48-54
كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان، فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بآيات بهرت الأبصار، وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر، وما ينتهي إليه، وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل، الذي لا يمكن صدوره، إلا عمن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقا له، أسلموا سراعا ولم يتلعثموا
وهكذا عيسى ابن مريم، بعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنى لحكيم إبراء الأكمه، الذي هو أسوأ حالا من الأعمى والأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره، هذا مما يعلم كل أحد معجزة دالة على صدق من قامت به، وعلى قدرة من أرسله
وهكذا محمد وعليهم أجمعين، بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فلفظه معجز تحدى به الإنس والجن، أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا، وما ذاك إلا لأنه كلام الخالق عز وجل، والله تعالى لا يشبهه شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله
والمقصود أن عيسى عليه السلام لما أقام عليهم الحجج والبراهين، استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم، فانتدب له من بينهم طائفة صالحة، فكانوا له أنصارا وأعوانا، قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته، وذلك حين همَّ به بنو إسرائيل، ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان، فعزموا على قتله وصلبه، فأنقذه الله منهم، ورفعه إليه من بين أظهرهم، وألقى شبهه على أحد أصحابه
فأخذوه فقتلوه وصلبوه، وهم يعتقدونه عيسى، وهم في ذلك غالطون، وللحق مكابرون، وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه، وكلا الفريقين في ذلك مخطئون، قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف: 6-8] إلى أن قال بعد ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [الصف: 14
فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد قام فيهم خطيبا، فبشرهم بخاتم الأنبياء الآتي بعده، ونوه باسمه، وذكر لهم صفته ليعرفوه ويتابعوه، إذا شاهدوه إقامة للحجة عليهم وإحسانا من الله إليهم، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف: 157]
قال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟
قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام
وقد روي عن العرباض بن سارية، وأبي أمامة، عن النبي نحو هذا، وفيه: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى
وذلك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ... } الآية [البقرة: 129] ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى، قام فيهم خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم، وأنها بعده في النبي العربي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق أحمد، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلا
ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الإسلام وأهله، ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته، على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } أي: من يساعدني في الدعوة إلى الله { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } وكان ذلك في قرية يقال لها الناصرة، فسموا بذلك النصارى
قال الله تعالى: { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } يعني لما دعا عيسى بني إسرائيل وغيرهم إلى الله تعالى، منهم من آمن، ومنهم من كفر، وكان ممن آمن به أهل أنطاكية بكمالهم، فيما ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير، بعث إليهم رسلا ثلاثة أحدهم شمعون الصفا، فآمنوا واستجابوا، وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس، لما تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية.
وكفر آخرون من بني إسرائيل، وهم جمهور اليهود، فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد، وأصبحوا ظاهرين عليهم قاهرين لهم، كما قال تعالى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ... } الآية [آل عمران: 55
فكل من كان إليه أقرب كان غالبا فمن دونه، ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه، من أنه عبد الله ورسوله، كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه وأطروه، وأنزلوه فوق ما أنزل الله به، ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه اليهود فيه عليهم لعائن
الله، كان النصارى قاهرين لليهود في أزمان الفترة، إلى زمن الإسلام وأهله
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
من موقع الشيخ الدكتور \مبارك العسكر
http://dr-alaskar.com/play-415.html