المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : علاقة الطعام والشراب بالتقوى


فلان_999
10-11-2006, 11:51 PM
علاقة الطعام والشراب بالتقوى

--------------------------------------------------------------------------------

روحانية صائم



رئيسي :مناسبات :



تناول الدرس التذكير بفضائل رمضان وأقسام الناس في استقباله وكيف كان حال السلف فيه وتفاوت الهمم: فهمة في الثرى وهمة في الثريا، مع بيان لروحانية الصوم وكيفية تحصيلها، ثم بيان غاية الصوم وحكمته وثمار الصوم وكيفية اجتناء هذه الثمار .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،، أما بعد؛ فبعد أيام نستقبل شهرنا العظيم، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهر الصيام والذكر، شهر التوبة والغفران، شهر العزة والكرامة.. اللهم بلغنا رمضان.. اللهم بلغنا رمضان، فكم من آمل أن يصوم هذا الشهر ففاجأه أجله فسار قبله إلى ظلمة القبر، كم من مستقبل يوم لا يستكمله ومؤمل غداً لا يدركه..


كم كنت تعرف ممن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حيا فما أقرب القاصي من الداني

الأحد عشر شهراً!! ظلت تجرى بسرعة عجيبة في دهشة وذهول من العاقلين، وغفلة ومجون من اللاهين، قال تعالى:} قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ[112]قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ[113] {'سورة المومنون' والعاقل اللبيب من يفكر ويعتبر بتلك الأيام التي عاشها والليالي التي قضاها، نعم هي ماض، لكنه يسجل عليك فالله تعالى يقول:} هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[29]{'سورة الجايثة' .

كل الناس يغدو في أهداف وآمال ورغبات وأماني، ولكن أين الجادون؟ أين الجادون فرمضان آت بعد أيام فكيف حال الناس بل كيف حال الأمة؟!! هل من وقفة صادقة للمحاسبة؟ وهل من وقوف جاد للتأمل؟ وما هي مراسم الاستقبال؟؟

كيف يستقبل التعساء رمضان؟

إن رمضان آت بعد أيام، وفى الآمة تُعساء يستقبلونه على أنه شهر: جوع نهار وشبع ليل، نوم في الفراش إلى ما بعد العصر؛ وسمر في الليل إلى الفجر، تراهم ذئاباً في الليل جيفاً في النهار، جعلوا من رمضان موسم طرب وسهر ودعايات وقنوات، إنهم يقتلون رمضان ويفسدون حلاوته وطعمه، حُرموا وحَرموا غيرهم من جمال رمضان وروعة الحياة فيه، عبادة للبدن والجسد بنزواته ولذاته، وأسر للروح والعقل؛ مساكين هؤلاء..

رمضان:رُبَّ فمٍ تمنَّع عن شراب أو طعام ظن الصيامَ عن الغذاء هو الحقيقة في الصيام

وهوى على الأعراض ينهشها ويقطع كالحمام يا ليته إذ صام، صام عن النمائم والحرام

بشارة الرسول لأصحابه بقدوم رمضان:

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان، فعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه:' قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا قَدْ حُرِمَ' رواه النسائي وأحمد، وصححه الألباني كما في صحيح النسائي.

اشتياق السلف إلى رمضان:

قال معلى بن الفضل عن السلف: 'كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم'.

وقال يحي بن أبى كثير: 'كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه منى متقبلاً'.

وباع قوم من السلف جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها فسألتهم؛ فقالوا: 'نتهيأ لصيام رمضان'، فقالت: 'وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟!! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، ردوني إليهم'.

شهر العزة والشجاعة والكرامة:

هكذا كان استقبال السلف لرمضان، فرمضان له طعم خاص ولذة عجيبة في نفوسهم رضوان الله عليهم، فهو يبعث في نفوسهم قوة الإيمان والشجاعة والعزة والكرامة، ولهذا كانت أكثر غزوات ومعارك المسلمين في رمضان لماذا؟ نعم لماذا؟

اسمع الإجابة: إنها حياة الروح حتى وإن كانت البطون خاوية والشفاه يابسة، فالحياة حياة الروح؛ حياة القلب؛ حياة الانتصار على النفس وعلى الشهوات؛ ومن انتصر على نفسه انتصر على الأعداء.

إنها حياة الصلة والثقة بالله جل وعلا، وهنا يكمن جمال رمضان وروعة هذا الشهر بتلك الروحانية العجيبة التي توقظ المشاعر وتؤثر في النفوس، فرمضان له في نفوس الصالحين الصادقين بهجة؛ وفى قلوب المتعبدين المخلصين فرحة؛ فهو شهر الطاعات ولنا فيه جميل الذكريات، إنه زاد الروح تتغلب الروح فيه على البدن والجسد.

من الناس من همته في الثرى، ومنهم من همته في الثريا:

فمنهم من يسعى لحياة الروح ومنهم من يسعى لحياة الجسد، وحياة الروح: باتصالها بالسماء، بالخوف والخشية والمراقبة والإخلاص لله جل وعلا، والروح والجسد لا غنى لأحدهما عن الآخر، إلا إذا أصبح الجسد لا هم له إلا شهوته وهواه، وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ] رواه البخاري والترمذي وابن ماجه.

ومن الناس من نسى روحه، وغفل عنها وعن حقوقها، فعبَّدها لجسده وشهواته؛ فأصبحت حياته هموماً وغموما، وأكداراً وأحزانا، ليس له هم إلا أن يرضى هواه.

مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، وأطيب ما فيها حلاوة الإيمان ولذة الطاعة، فالإنسان جسد وروح وشهوة وعقل، والجسد تتبع له شهوة، والروح تتبع لها العقل، والصراع دائم بين الفريقين؛ الجسد والشهوة معاً، والروح والعقل معاً، ومتى شبع البطن تحركت الشهوة، وإذا خلا البطن؛ هدأت الشهوة وانطلقت الروح تنمو وتنشط، ففي الصيام حلاوة لا يدركها إلا من صام من أجل الله بصدق، ولا يعرفها إلا الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم.وهذه هي الروحانية العجيبة:

روحانية صائم : بذرها بالجوع وسقاها بالدموع، وقواها بالركوع وحسنها الخشوع والخضوع.

روحانية صائم : فيها السعادة واللذة والأفراح والأشواق ما لا يبثه لسان ولا يصفه بيان.

روحانية صائم : فيها الأرواح تهتز وترتاح، وتطير بغير جناح، فهي في أفراح وأفراح.

روحانية صائم : فيها من الحنين لجنات النعيم ما تورمت له أقدام المتهجدين، وبذل له الثمين، وسُمع له الأنين.

روحانية صائم : لا يعرفها العاشقون، ولا المتصوفة الواجدون، بل هي والله حكر على المحبين الصادقين والمخلصين العارفين.

روحانية صائم : تخلصت من أسر الهوى والشهوة وحيل النفس والشيطان.

روحانية صائم : عاش في جنة الدنيا، وفى الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، ولكن كم بين خلى وسجيا وواجد وفاقد وكاتم ومبد.

أفراح الروح:

هذه أفراح الروح عند انتصارها؛ وفك أسرها من شهوات الجسد، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: 'فاللروح المطلقة من أسر الهوى، من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه' انتهى كلامه رحمه الله.

روحانية لاتوصف:

هذه الروحانية لا نعرف كنهها، ولا نستطيع وصفها، حتى من ذاق طعمها وعرف حلاوتها من أولئك الأفذاذ ما استطاعوا وصفها ولا التعبير عن وجدها إلا بألفاظ عامة، لم تفصح عن حقيقة الشعور، واسمع لبعضهم يقول:

'إنه ليمر بالقلب لحظات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم'.

وآخر يقول: 'أنا جنتي وبستاني في صدري فماذا يفعل أعدائي بي، سجني خلوة، ونفى سياحة، وقتلى في سبيل الله شهادة'.

وهذا ثالث لم يجد ما يعبر به عن السعادة واللذة التي يحبها إلا بقوله: 'إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة' .

إنها حلاوة الإيمان وطعم الصلة بالله، إنها أفراح الروح لا تنقل بالكلمات، إنما تسرى في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها .

كيف السبيل لهذا النعيم ؟

أما الكيفية: فصم وقم كما كان يصوم ويقوم قدوتنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم:} قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [31]{ 'سورة آل عمران' .

لمــاذا نصــوم ؟

سؤال مهم يجب أن يسأله المسلم نفسه، وحتى لا يتحول هذا الشهر من عبادة لها أهداف ومقاصد عظيمة إلي عادة ثقيلة، كان لابد من الإجابة عن هذا السؤال، فكثير من الناس يصومون، ولكن قليل أولئك الذين يعرفون لماذا يصومون.. هذا هو الفرق بين العادة والعبادة .

لماذا نصوم ؟ يحدد لك الهدف والغاية التي من أجلها فرض صوم رمضان. ووضوح الهدف في أي عمل تقوم به يسهل عليك ذلك العمل، ويدفعك للاجتهاد والمجاهدة للوصول إلي هدفك.

لماذا تمسك عن الطعام والشراب والجماع أكثر من نصف يوم ؟ تجوع وتعطش.. لماذا؟ تسهر وتتعب.. لماذا؟ أصناف الطعام بين يديك والماء البارد بين عينيك فلا تمد يدك إليه.. لماذا؟ ماذا تريد من كل هذا؟ ما هو الهدف؟ إلى أي شئ تريد أن تصل؟ ربما حدثتك نفسك فقالت: لماذا أمرنا الله بالصيام؟ ولماذا فرض علينا شهر رمضان؟

حاشا لله عز وجل أن يكون المراد تجويعنا وتعطيشنا وإتعابنا وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم من الأم بولدها، بل إن الله قال في آخر آيات الصيام: } يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[185]{'سورة البقرة' .

وربما تقول أيها الحبيب: إننا نصوم رمضان؛ لأن الله أمرنا بصيامه، فتجب الطاعة والاستجابة لله بما أمر؛ فنقول؛ نعم إن الاستجابة لله ورسوله أمر واجب على كل مسلم ومسلمة، ولو لم تتبين لنا الثمرة والحكمة من هذا الأمر، فنحن أسلمنا واستسلمنا لله؛ فيجب علينا طاعة الله، فإن الخير كل الخير فيما أمر الله ورسوله به.

الهدف من الصوم: لكن هناك ثمرة وغاية عظيمة بينها الله عز وجل من شهر الصيام بقوله:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [183]{ 'سورة البقرة' .

إذا فالغاية الأولى والهدف الأسمى من صيام رمضان:

هو إعداد القلوب للتقوى ومراقبة الله .

إعداد القلوب لخشية الله.

فالصوم يجعل القلوب لينة رقيقة، يجعلها ذات شفافية وحساسية، يجعلها وجلة حية.. يوقظ القلوب، فإذا فسد الناس في زمن من الأزمان فإن صلاحه لا يكون بالتشدد والتنطع، فليبدأ الصلاح بإعداد القلوب وبث حرارة الإيمان فيها، وخوف الله ومراقبته، فالإسلام لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى ومراقبة الله والخوف منه.

ثمـار الصيـام :

ومن أعظم ثمار الصيام: تربية القلوب على مراقبة الله وتعويدها على الخوف والحياء منه.

ويقول القسطلاني رحمه الله- معدداً ثمرات الصوم-: 'ومنها: رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة، فإن الشبع مما يذهب نور العرفان، ويقضى بالقسوة والحرمان' انتهى كلامه .

إذا كان الأكل والشرب للبطن، والتقوى مكانها القلب؛ فما دخل ذا بذا؟

و الإجابة: أليس كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب وغفلته؟ فالبطنة تذهب الفطنة، والشبع يقسي القلب ويعميه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:' مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ' رواه ابن ماجه وأحمد والترمذي وقال:حسن صحيح .

وقال عمرو بن قيس: 'إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب'.

وقال الحارث بن كلدة، الطبيب العربي المشهور:'الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء' .

وقال سفيان الثوري: 'إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل'.

ولذلك فإن تقليل الطعام والشراب ومباشرة النساء؛ ينور القلب ويوجب رقته، ويزيل قسوته، فالصيام فيه كسب للنفس وتحلية القلب للذكر والفكر.

والصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجارى الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر ثورة الشهوة والغضب.

وقد روى عن ذي النون المصري رحمه الله أنه قال: 'تجوّع بالنهار وقم بالأسحار، ترى عجباً من الملك الجبار'. وقال يحي بن معاذ: 'من شبع من الطعام عجز عن القيام'، فهل عرفت علاقة الطعام والشراب بالتقوى؟!

والإمساك عن الطعام والشراب في رمضان ليس هدفاً في ذاته، بل هو وسيلة لرقة القلب وانكساره وخشيته لله، ولذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ' كما في البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم:' لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إنَّمَا الصِّيَامُ مِنْ الّلغْوِ وَالرَفَثِ' رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

هذه هي حقيقة الصيام فلا تحرم نفسك منها ؛ أما إن كان الأمر ترك الطعام والشراب فما أهون الصيام، ولكن إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك من الكذب والمحارم؛ وجماع ذلك خوف القلب من الله ومراقبته، وإلا فتنبه واحذر، فربما دخلت في قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ' رواه أحمد والدارمي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وقال الحاكم:' صحيح على شرط البخاري' .

إذا؛ فليس رمضان إمساك عن الطعام والشراب فقط؛ وسجوداً وركوعاً، والقلب هو القلب قاس عاص غافل لاه، الغناء يطرب الآذان، وللعينين أُطلق العنان، واللسان غش وكذب وغيبة ونميمة وسب ولعان. فَأُفٍ ثم أف لنفوس لم يهذبها الجوع ولم يربها السجود والركوع، فالصيام تدريب للنفوس وتعويد لها على الصبر وترك الشهوات..يدخل رمضان ويخرج وبعض النفوس لم تتغير، يجوع ويعطش وقلبه هو قلبه، ومعاصيه هي معاصيه، وربما يركع ويسجد، ويسهر ويتعب وحاله هي حاله، ولسانه هو لسانه.. نعوذ بالله من حال هؤلاء.

قال ابن رجب رحمه الله : [كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، لا يزيد صاحبه إلا بعداً، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به، لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً، يا قوم أين آثار الصيام؟! أين أنوار القيام؟!

إن كنت تنوح يا حمام الباني للبين أين شواهد الأحزان !!

أجفانك للدمـوع أم أجفـاني لا تقبل دعـوى بلا برهان

[ انتهى كلامه رحمه الله] .

إذاً: ليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفوس، بل هو لتربيتها وتزكيتها ولينها ورقتها، فالقرآن يعلمنا أن الصوم إنما فرض لنذوق طعم الإيمان، ونشعر براحة القلب، وسعادة النفس، ولذة الحياة ،وكل ذلك في مراقبة الله والخوف منه، فتقوى الله أعظم كنز يملكه العبد في الدنيا، وليس أشقى والله على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس بالله بتقوى الله.

كيف تحصل ثمرة الصيام: تقوى الله؟

علاقة الصيام بتقوى الله تظهر من وجوه كثيرة فأرعني سمعك وانتبه لهذه الأسئلة:

ألا يمكن وأنت صائم في نهار رمضان أن تختفي عن أعين الناس فتأكل وتشرب وتفعل ما تشاء، لا يعلم بك أحد من الناس ولا تطلع عليك عين من عيون الخلق؟؟ اسأل نفسك ما الذي يمنعك؟ ما الذي يردك؟ لأنك تعلم أن الله يراك ومطلع عليك ويعلم ما تخفي وما تعلن.

أليس في هذا تربية للقلب، وارتباط بخالقه وخوفه وخشيته؟ أليس من صام بمثل هذه المعاني وبمثل هذه المشاعر ازداد صلة بالله وخشية وخوفاً من الله، وازداد تذوقاً بصيام رمضان، وراحة للنفس والبال؟ وهذا أعظم زاد للروح، فالصوم أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه إلا الله، فهو سر بين العبد وربه، ولولا استشعاره لرقابة الله وأنه يراه؛ لما صبر عن هذه الشهوات.

عند الوضوء للصلاة، وفى المضمضة والاستنشاق، لماذا تحرص أن لا يفوت إلى حلقك قطرة ماء مع أنه لا يطلع عليك أحد من الناس، ولا يعلم بك أحد لو أدخلت جرعة ماء فكيف بقطرة؟

من علمك هذا الأدب؟ من علمك هذا الحرص العجيب؟ إنها رقابة الله، فأنت على يقين أنه يرى قطرة الماء هذه لو سالت إلى حلقك.

في رمضان نراكِ أيتها الأخت الكريمة من بعد صلاة الظهر إلى غروب الشمس، وأنت في مطبخك تقفين أمام أصناف المأكولات والمشروبات، تراها بعينيها، وتشم روائحها المغرية بنفسها، وربما ذاقت ذلك بطرف لسانها فأخرجته بحركة سريعة عجيبة .. تأملوا هذا الموقف.. تأمليه أيتها الأخت! جائعة وعطشى ولوحدها لا يراها أحد من الناس، فلماذا لا تمد يدها فتأكل وتشرب؟ من الذي يمنعها؟ من يردها؟ إنها حلاوة الروح بصلتها بالله.. بخوفها من الله، فهي تعلم أن الله يراها، ومطلع عليها ويعلم حالها، فأي تهذيب وأي تأديب هذا الذي أحدثه الصيام في النفوس؟ فما رأيكن أيتها الصائمات هل عرفتن لماذا نصوم!!

إذاً: فخلاصة الأمر نقول: إن تجويع البطن والفرج لبضع ساعات فيه حياة الروح، فانكسار النفس وخلو البطن وتضييق مجارى الدم فوائد للصيام، مفادها حياة الروح المتمثلة برقة القلب ولينة وخوفه وخشيته من الله جل وعلا.

وإذا ملك العبد قلباً بهذه الصفات؛ انضبط قوله وفعله وحاله، إذ لا يمكن أبدا أن يمتثل لترك هذه الشهوات: الطعام والشراب والجماع، وهى حلال فيتعداها إلى الحرام من كذب وظلم وغش ومشاهدة للحرام وسماع للغناء، سواء كان في الليل أو النهار، وسواء كان في رمضان أو غير رمضان.

فالله فرض الصيام ثلاثين يوماً تدريباً وتذكيراً للنفوس برقابة الله عليها، وصدق الله:} لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [183]{ 'سورة البقرة' . أي من أجل أن تتقوا، ومن لم يصم بهذه المعاني فليتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف الذكر: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ] .

فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه.. وفتح لهم أبواباً في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواه لطلبها والمسابقة إليها، أما الحلاوة الحقيقية فيكفى قول الحق عز جل: }فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[17] {'سورة السجدة' .

في رمضان موسم الخيرات.. هلموا إلى دار لا يموت سكانها؛ ولا يخرب بنيانها؛ ولا يهرم شبانها؛ ولا يتغير حسنها وإحسانها..هوائها النسيم.. يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين.. ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم كل حين..}دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[10]{ 'سورة يونس' .

فأكرموا هذا الوافد الكريم.. استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله؛ أروا الله من أنفسكم في هذا الشهر المبارك.. فإن لله نفحات من حرمها فقد حرم خيراً كثيراً.. جاهدوا أنفسكم.. أخلصوا النية لله في الاستعداد له؛ فربما قطع هادم اللذات تلك الأماني فبلغ صاحبها بنيته ما لم يبلغه بعمله.. كم من إخواننا الذين كانوا يخططون لشهر رمضان وعمل الخيرات فيه، وقد حملناهم على الأكتاف ودفناهم تحت الأجداث، لكنهم بلغوا إن شاء الله بنياتهم.

من محاضرة:'روحانية صائم' للشيخ/ إبراهيم الدويش

فلان_999
10-12-2006, 12:00 AM
مقتطفات من المحاظره:

من الناس من همته في الثرى، ومنهم من همته في الثريا:
-------
ومن الناس من نسى روحه، وغفل عنها وعن حقوقها، فعبَّدها لجسده وشهواته؛ فأصبحت حياته هموماً وغموما، وأكداراً وأحزانا، ليس له هم إلا أن يرضى هواه.

------------
قال ابن القيم رحمه الله: 'فاللروح المطلقة من أسر الهوى، من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه' انتهى كلامه رحمه الله.

-----------
ويقول القسطلاني رحمه الله- معدداً ثمرات الصوم-: 'ومنها: رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة، فإن الشبع مما يذهب نور العرفان، ويقضى بالقسوة والحرمان' انتهى كلامه
-----------
كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب وغفلته؟ فالبطنة تذهب الفطنة، والشبع يقسي القلب ويعميه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:' مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ' رواه ابن ماجه وأحمد والترمذي وقال:حسن صحيح .
-----------
وقال عمرو بن قيس: 'إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب'.

وقال الحارث بن كلدة، الطبيب العربي المشهور:'الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء' .

وقال سفيان الثوري: 'إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل'.

----------------
والصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجارى الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر ثورة الشهوة والغضب.

وقد روى عن ذي النون المصري رحمه الله أنه قال: 'تجوّع بالنهار وقم بالأسحار، ترى عجباً من الملك الجبار'. وقال يحي بن معاذ: 'من شبع من الطعام عجز عن القيام'، فهل عرفت علاقة الطعام والشراب بالتقوى؟!

اخو من طاع الله
10-14-2006, 10:54 AM
مكرر مع الاسف