المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة واقعية يرويها صاحبها ..تفضلوا


بـــنــت روق
04-05-2004, 10:18 AM
قصة واقعية يرويها صاحبها ..تفضلوا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وأبدأ من البداية فأقول لك إنني نشأت ابنا وحيدا لأب يعمل موظفا حكوميا‏..‏ وأم لا تعي الذاكرة منها إلا أطيافا غائمة‏..‏ لأنها رحلت عن الحياة وأنا في السادسة من عمري‏,‏ وعشت وحيدا مع أبي الطيب‏..‏ يرعاني ويهتم بأمري ويصاحبني في أوقات المذاكرة‏,‏ ويصطحبني معه في زياراته لشقيقه‏..‏ وشقيقته أو أصدقائه‏..‏ ولا يطمئن إلا إذا كنت أمام ناظريه‏..‏ فحتي حين يذهب إلي المقهي ليلعب الطاولة مع بعض أصدقائه كان يجلسني إلي جواره‏.‏

وهكذا عشنا معا صديقين متلازمين حتي بلغت سن الثالثة عشرة‏,‏ وعدت من المدرسة ذات يوم فوجدت مسكننا يعج بالرجال والسيدات‏..‏ ومن بينهن عمتي التي استقبلتني بالبكاء‏..‏ واحتضنتني وأبلغتني أن أبي قد توفاه الله فجأة وهو جالس إلي مكتبه في عمله‏..‏ وأنني الآن قد صرت رجلا وطالبتني بألا أبكي‏..‏ وأن أقف بين الرجال لتلقي العزاء في أبي‏..‏ وبالفعل فإنني لم أبك حين عرفت بما حدث‏,‏ وانما أصابني الذهول‏..‏ وراح جسمي ينتفض لا إراديا طوال اليوم واستضافتني عمتي في بيتها لفترة نعمت خلالها بعطفها علي وحنانها‏..‏ ثم قيل لي إنني يجب أن أنتقل للإقامة في بيت عمي‏,‏ لأن زوج عمتي يتضرر من وجودي بين بنتيه اللتين تكبرانني ببضع سنوات‏,‏ وانتقلت إلي بيت عمي الذي تولي الوصاية علي‏..‏ وكان أبي قد ترك لي معاشا ضئيلا لا يتجاوز‏11‏ جنيها ونصيبا علي المشاع في فدان من الأرض كان قد ورثه مع عمتي وعمي‏,‏ وفي بيت عمي هذا أدركت معني اليتم الحقيقي وافتقاد النصير‏,‏ فلقد واجهني من اليوم الأول بأنه لا مكان لي للمبيت سوي الأرض في غرفة ابنيه‏,‏ لأن الفراش لا يتسع لغيرهما‏..‏ والغرفة الأخري مخصصة لبنتيه‏,‏ فلم أعترض لكن ليالي الشتاء القاسية كانت تشق علي فطلبت منه أن يشتري لي مرتبة صغيرة أنام عليها‏,‏ فرفض بحجة أن الحالة لا تسمح بذلك‏,‏ وشيئا فشيئا وجدتني أتحول تدريجيا إلي خادم للأسرة وليس عضوا فيها من دمها ولحمها‏..‏ فزوجة عمي تنتظر عودتي من المدرسة لتكلفني بأعمال البيت وشراء الخضار وكي ملابس ابني عمي وابنتيه‏..‏ وغسل الأطباق‏,‏ ناهيك عن يوم التنظيف الاسبوعي الذي يتعين علي فيه أن أمسح تحت اشرافها الشقة كلها‏,‏ وابناؤها يتسلون بمشاهدة التليفزيون‏..‏ فإذا خلوت من كل الواجبات وبدأت أذاكر دروسي في الصالة لم أسلم من لومها لي لإسرافي في استخدام الكهرباء‏,‏ وشكواها من فاتورتها‏..‏ فاختلس ساعة للمذاكرة علي الأكثر وأسرع بإطفاء النور‏..‏ وقد تقطع علي مذاكرتي بتكليفي بالخروج لشراء شيء للبيت أو للأولاد‏.‏

أما عمي فقد رفض أن يعطيني مصروفا يوميا أو اسبوعيا‏,‏ بحجة أنني أتناول الطعام والشراب في البيت‏..‏ في حين كان أبناؤه جميعا يحصلون علي مصروفهم وينفقونه علي شراء الحلوي والأشياء الصغيرة‏..‏ وحتي الحلاقة كان يرفض أن يعطيني أجرتها‏..‏ ولما طال شعري كثيرا وأصبح منظري منفرا أحضر شفرة حلاقة وطلب مني أن أحلق لنفسي مستعينا بوضع الشفرة علي حد المشط وتمريره فوق شعري‏..‏ ولم أجد مفرا من أن أفعل ذلك‏..‏ أما الكتب والكراريس فلقد قال لي صراحة إن معاشي ونصيبي من الأرض لا يكفيان لطعامي وشرابي‏,‏ وعلي أن أتصرف في بقية احتياجاتي‏,‏ فكنت أجمع الكشاكيل القديمة لابني عمي وأنزع منها الصفحات البيضاء وأصنع منها كراسات‏..‏ وأستعير الكتب من زملائي‏..‏ وأعرض خدماتي يوم الجمعة كل أسبوع علي محال المكوجية والبقالة والفاكهة لأعمل لديها مقابل‏5‏ قروش‏..‏ بل لقد عملت في محل لتصليح الأحذية أربع جمع مقابل اصلاح حذائي المخروق بالمجان‏..‏
ناهيك عن أنني أمضيت السنوات الثلاث الأولي من إقامتي عند عمي دون شراء أية قطعة ملابس حتي صغرت علي ملابسي بشكل فاضح‏,‏ لأن الشاب ينمو جسمه بسرعة خلال هذه المرحلة‏..,‏ ورجوت عمي مرارا أن يشتري لي بنطلونا وقميصا مناسبين لطولي وحجمي دون جدوي‏,‏ وزاد الطين بلة أن جسمي ابنيه بالرغم من أن أحدهما يماثلني في السن والآخر يصغرني بسنة‏,‏ ضئيلان بحيث لا أستطيع الاستفادة من ملابسهما القديمة‏,‏ وحين أصبح منظري مثيرا للرثاء توجهت إلي عمتي وشكوت لها حالي‏,‏ فبكت وقدمت لي جنيهين هما كل ما تستطيع مساعدتي به‏,‏ فأخذتهما وتوجهت إلي سوق الكانتو واشتريت بهما بنطلونا وقميصا من مخلفات المعسكرات‏,‏ ومضت بي الحياة علي هذا النحو‏..‏ وزاد من معاناتي أنني لم أتعثر دراسيا في حين كان ابنا عمي ينجحان سنة ويرسبان أخري‏..,‏ وبدلا من أن يعترف لي عمي وزوجته باجتهادي برغم ظروفي القاسية ازدادا نفورا مني حتي لم يعد أحدهما يطيق النظر في وجهي‏.‏

وجاءت اللحظة الفاصلة حين عدت ذات يوم من مدرستي فوجدت عمي وزوجته وأبناءه علي هيئة مجلس للعائلة يتناقشون بصخب وعمي ثائر لكثرة المصروفات وزوجته تدافع عن نفسها‏,‏ بأنها تفعل المستحيل لتدبير معيشة الأسرة بأقل التكاليف‏,‏ لكن ابن أخيك يسرق الطعام من المطبخ في الليل‏..‏ ويأكل كثيرا‏..‏ ولو لم يكن يفعل ذلك لما نما جسمه علي هذا النحو الهائل‏!‏
ياربي‏..‏ أسرق الطعام؟ إنني أحافظ علي صلاتي منذ كنت في السابعة من عمري وأصوم رمضان وصيام التطوع وكثيرا ما صمت يومي الاثنين والخميس‏,‏ وكثيرا ما اكتفيت بوجبة واحدة وتغاضيت عن تفضيل زوجة عمي لأبنائها بأطايب الطعام والقائها لي ببقاياه‏..,‏ وكثيرا ما تحلب ريقي وهي تجمع أبناءها في غرفة الأولاد في المساء ليتناولوا عشاء خاصا‏,‏ وأنا جائع في الصالة ولا يفكر أحد في دعوتي للانضمام إليهم‏..‏ وبعد ذلك أتهم بسرقة الطعام‏,‏ كان هذا آخر احتمالي فانهرت باكيا‏,‏ وقلت لعمي وللجميع إنني تحملت الذل صابرا في هذا البيت مراعاة لظروفي ويتمي‏,‏ لكن أن يصل الأمر إلي حد هذا الاتهام المقزز فلا‏..‏ ولسوف أغادر البيت وأرجع إلي شقة أبي وأواجه حياتي معتمدا علي نفسي وأريد منه أن يعطيني معاشي كل شهر لأدفع إيجار الشقة وتكاليف الحياة‏.‏

وجمعت ما تبقي لي من هلاهيل وكتبي ومددت يدي إلي عمي وكنا في منتصف الشهر طالبا نصف المعاش‏,‏ وبعد عذاب قبل بمغادرتي لمسكنه‏,‏ لكنه رفض أن يعطيني معاشي كاملا وهو‏11‏ جنيها‏,‏ وقال لي إنه سيخصم منه ثلاثة جنيهات كل شهر مقابل نفقاتي الاضافية خلال إقامتي لديه‏!‏
ولم أجد مفرا من القبول‏..‏ وأخذت مفتاح شقة أبي‏..‏ وتوجهت إلي صاحبة البيت التي تقيم في الدور الثاني منه‏,‏ وكنت أمر عليها من حين لآخر وأشرب لديها الشاي وتعطف علي‏,‏ فرويت لها ما حدث وقلت لها إنني سأعيش وحدي في الشقة بغير مورد سوي ثمانية جنيهات سأدفع لها منها أربعة مقابل الايجار وأعيش بالباقي‏,‏ وسأعمل لأغطي بقية نفقاتي‏,‏ فبكت وترحمت علي أمي وأبي وطلبت ألا أدفع لها الإيجار إلي حين تتحسن أحوالي وأصبح قادرا علي ذلك‏.‏

ووحيدا تماما من الأهل والأقارب واجهت الحياة في هذه الشقة الصغيرة‏..‏ وشعرت برغم قلة الدخل وجفاف الحياة بالأمان والاستقرار‏,‏ وحصلت علي الثانوية العامة بمجموع كبير يؤهلني للالتحاق بكلية الهندسة‏..‏ وسعدت بذلك‏..‏ وخلت نفسي من الشماتة لنجاح ابن عمي بمجموع ضعيف لا يؤهله إلا للالتحاق بأحد المعاهد‏..‏
وتفضل عمي‏,‏ الذي كان يراوغني كل شهر في دفع المعاش وأطارده عدة مرات حتي يدفع‏,‏ بزيارتي في مسكني زيارة خطيرة لينصحني من أجل مصلحتي بالاكتفاء بهذا القدر من التعليم والبحث عن وظيفة كتابية‏..‏ أو الالتحاق بأي معهد لمدة سنتين والعمل‏,‏ وشكرت له حرصه علي مصلحتي وأكدت له أنني سأفعل ما فيه صالحي بإذن الله‏.‏

وفي اليوم التالي قدمت أوراقي لمكتب التنسيق وحددت رغبتي الأولي وهي كلية الهندسة‏.‏ وقبلت بها‏..‏ ولن أروي لك عما تكبدته من عناء وحرمان وكفاح خلال دراستي للهندسة مستعينا بالعمل في المساء في مكتب هندسي‏..‏ وفي هذا المكتب نشأت صداقة حميمة بيني وبين زميلين بنفس الكلية والمكتب أصبحنا بفضلها أخوة مخلصين وتعاهدنا علي أن يساعد أحدنا الآخر إذا حقق نجاحا يسمح له بذلك‏.‏
وحصلت علي بكالوريوس الهندسة بتقدير جيد جدا‏,‏ وعينت معيدا بنفس الكلية وبدأت التحضير للماجستير في حين رفض صديقاي العمل في مصر‏..‏ وسافرا لاستكمال دراستهما العليا والعمل في أمريكا‏.‏

وفي غمرة سعادتي بتوفيق الله سبحانه وتعالي لي وشكري له علي أن أعانني علي تحمل ظروفي حتي وصلت إلي بر الأمان‏,‏ زارني عمي لا ليهنئني بالنجاح والتعيين‏,‏ وانما ليطلب مني أن أرد له الجميل بخطبة ابنته الكبري التي صادفها حظ عاثر